كتابة أم صبابة...؟

TT

منذ ان جمعت ريش المخيلة، وصنعت للحرف جناحين واطلقته على السطر يطير، وعينت نفسي كاتبا، والنقاد وزملاء المهنة يسألونني: لماذا تكتب..؟

فأحك ارنبة أنفي، وأهرش رأسي، واسأل نفسي معهم: لماذا أكتب..؟

خطر لي مرة ان أقول كما يتفذلك بعضهم: اني اكتب لأن الكتابة قدري ثم وزنت الجملة، ورزنتها ووجدتها تحمل فوق الغرور قدرا لا بأس به من التطاول والوقاحة اللفظية ناهيك من الاحتقار المعنوي لعقل السائل، والمجيب.

هل أقول بتواضع لأنه لا مهنة لي غيرها...؟ عمليا هذا الكلام غير صحيح فقد نجحت في عملي دهانا ومعمارا، وحارسا ليليا في محلج قطن، ومعلما بالقطعة (بالساعات). وغير هذه المهن، التي لا تطعم خبزا ولا زيتونا، اتيحت لي فرص هامة في مهن تدر الفلوس، وتبعدني عن الطريق العبوس، وكنت ذات مرة مستشارا عرمرميا لا عمل لي غير قراءة الصحف على شاطئ البحر، والسفر بالجو، والبر، والافتاء كل حين بعدة جمل لا تضر ولا تنفع، ولا يريدها اصلا من يستشير، فنحن قوم احلامنا تزن الجبال رزانة ويفترض ان نستشير نظريا لتأكيد رجاحة العقل أما عمليا فلا نفعل إلا ما في رؤوسنا ـ على قلة ما فيها ـ لنحصل على الصفة الشاعرية التي نصفق لها كثيرا: «ونجهل فوق جهل الجاهلينا».

وفي لحظة مصارحة مع الذات قلت لنفسي اسألها، واسامرها: لعلي اصبحت كاتبا لاني شخصية عنيدة تحب المشاكسة، فالكتابة فعل مشاكسة واكتشاف، وفضاؤها يحتفي بتلك النوعية التي لا يعجبها العجب ولا الصوم في شعبان ورجب ثم فكرت بحيادية فلم أجد الجواب مقنعا لأن بين من أحب قراءتهم من الكتاب والادباء فئة من ألطف ما خلق الرحمن وأرق ما عرفت من انسان وشبه انسان.

واحيانا اضبط نفسي في وضعية المقتنع بأن الكتابة نوع من المخدر الضروري واني لو لم اكن امارسها لعضضت انف هذا، ونطحت ذاك، وفرغت حمولة غيظي في جاره، أو ابن عمه أو ولي نعمته، فنحن محاطون بالجشع والانانية والغباء والاستبداد والنرجسية الفظة والاستهتار بالعواطف والعقول وهي حالات يصبح فيها الرد العنيف واجبا قوميا وفي هذه اتشارك مع بلدياتي الكاتبة الكبيرة غادة السمان التي قالت ذات يوم انها تكتب كي لا تقتل.

وأخيراً، وحين تكرر الظهور بالتلفزيون جاءني السؤال الادهى: ايهما تحب اكثر الشاشة ام الكتابة، وكنت دائما ولا ازال اتعصب للثانية، فمعرفة الشاشات سطحية وعابرة وسخيفة بينما معرفة الكتابة تقيم علاقة صداقة حقيقية مع القارئ، وتمد جسورا قوية مع خلق كثير، وتشكل لك دون ان تدري حزبا سريا يعرف كل شيء عنك لأنك تعرف كيف تعبر عنه.

الكتابة عالم سري صعب وعلى خلاف ما يظنها الناس فهي من اصعب المهن، ولا يعرف الشوق الا من يكابده، ولا الصبابة الا من يعانيها، ولك ان تصدق دون سجع، فإن الكتابة ليست مهنة ولكنها نوع من الصبابة، فالصب لغة عاشق متيم، والصبابة حسب سيبويه وابن الاعرابي نهاية الشوق، وخلاصة ما في العشق من رقة وحرارة.

ان كل من يمارس الكتابة بعمق وألم وحميمية، وليس للاستعراض والبرستيج والتكسب، يدرك ان بعض انواع الكتابة عشق مصفى، وغرام مقطر وحب بلا حدود لذلك الفضاء الرحيب الذي تمرح فيه عصافير المخيلة وتصهل احصنة العقل وتثغو حملان الرغبة، وتظهر فيه على المتيم اعراض الحمل وقلق الانتظار والترقب وآلام الوضع والولادة التي تأتي احيانا طبيعية وغالب الاحيان بقيصريات جارحة ومضنية لصاحبها ولمن حوله من الاهل والاصدقاء والاحباب.

نعم الكتابة عشق والكاتب الحقيقي عاشق ابدي لا أمل في شفائه، وأسوأ ما في هذا النوع من العشق انه يختلط بعادات ادمان لا شفاء منها، فالعاشق العادي يسلو، واحيانا ينسى ويبدأ قصة غرام جديدة، وعاشق الصبابة (الكتابة) لا أمل له في الشفاء ولا الراحة.

انها مهنة من المهد الى اللحد لا تقاعد فيها ولا اجازة وهذا التصريح ليس على مذهب الشكوى انما للثناء على حالة عشق تعطيك رغم آلامها لحظات معتقة من لبن التألق الابداعي، وعسل المتعة والسعادة.