خواطر 23 يوليو (3) الوجه الوادع، الضحية الاولى

TT

في مناخ من الفوضى العامة وغياب القصر والحاشية غياباً كلياً عن واقع الاشياء، تم تعيين حسين سري رئيساً للوزراء الذي جاء بحكومة من الضعفاء لم تقنع احداً.

ووجه سري الضربة القاتلة الى حكومته بأن اضاف اليها كريم ثابت وزيرا للدولة، وهو الرمز المجسم للفساد والانحلال. ولكن سري حاول مقابل ذلك ان يقنع فاروق بتعيين اللواء محمد نجيب رئيساً لنادي الضباط، فرفض لمعرفته بالشعبية التي يتمتع بها نجيب منذ حرب فلسطين. وفي 19 يوليو امر فاروق رئيس وزرائه بحل نادي الضباط من الاساس لابعاد شبح اكثر ضباط الجيش دفئاً واحتراماً، وبعد يومين من ذلك استقال حسين سري، لادراكه سوء الوضع ومدى ما يتمتع به محمد نجيب من ولاء واعجاب.

كان «الضباط الاحرار» قد قرروا الانقضاض على الحكم في وقت ما من آب (اغسطس) ذلك العام. لكن استقالة الحكومة في 21 يوليو حملتهم على تغيير خطتهم. وليلة 22 ـ 23 يوليو (تموز) استولى نحو 3 آلاف عسكري و200 ضابط على قيادة الجيش والمطارات ومحطات الاذاعة ومراكز الاتصالات. وفي اللحظة الاخيرة طلب الى محمد نجيب ان يتولى منصب القائد الاعلى للقوات المسلحة. وظهر على الشعب المصري وجه بسيط دائم الابتسام، بعكس ما كانوا يظنون في الملامح العسكرية. وادرك فاروق ان كل شيء قد انقضى، وتُرك له ان ينقل كل ما شاء من القصر ويتجه الى ايطاليا حيث امضى بقية عمره الذي لم يطل كثيرا. وكان بين الصناديق التي حملها، المجوهرات ومجموعات من طفايات السجائر التي يقول كريم ثابت في مذكراته انها كانت ولعه وهوايته. ومن الصعب الاستناد الى شيء في مذكرات كريم ثابت، «المستشار الصحافي» الذي كان في حقيقة الامر مستشاراً لعديد من الامور، فقد كان كل ما كتبه انتقاماً من سيده ونفخاً في دور لم يلعبه اطلاقا.

حمل العامان الاولان من الثورة ملامح محمد نجيب وطيبته. وبعد قليل اصبح هو ايضاً رئيساً لمجلس الوزراء. وتم اعتقال الكثيرين بتهمة الفساد والرشوة افرج عنهم بعد قليل. ولم تكن الثورة المصرية في البداية دون دماء فحسب بل كانت ايضاً دون اعتقالات جماعية وسجون مقبرية. ولم تعلق الجثث بعد محاكمتها. ولم تقم محاكمات تهريجية تسلَّي الناس وتضحكهم حول مشاهد الاعناق المعلقة والجثث المتدلية في الساحات العامة حيث تقوم الناس بنزهاتها الاسبوعية وتتناول طعامها تحت اغماضات الرؤوس الملوية الى الابد، كما يروي الكاتب حسن العلوي في درامياته الكثيرة.

كان محمد نجيب، صاحب الوداعة التي لا تنسى، اول وجوه الثورة، واول ضحاياها. فمثل كل ثورة، بلا استثناء، منذ الثورة الفرنسية النموذج، اخذت الثورة المصرية تأكل ابناءها الواحد بعد الآخر. وصدر في مصر منذ اكثر من عامين كتاب يعدد صنوف السقوط والابعاد الى النسيان. غير ان حالة محمد نجيب كانت الاقسى في كل المقاييس. فقد مات الرجل الذي استظلت الثورة به، مبعداً ومعزولاً. ومات شقيقه في المانيا غير قادر على ان يحمل نفسه لأن يدفن في ارض مصر، وعمل شقيق آخر سائق تاكسي في القاهرة، فوصل الخبر الى المقاول احمد عثمان، الذي لم يهن عليه الامر فأمر بأن يدعى للعمل سائقا في شركته.

من اجل اسقاط محمد نجيب، نزلت الى شوارع القاهرة تظاهرات دبرها الرفاق، ترفع شعار «لا حرية ولا دستور». وكانت تلك اول محاولة عربية معلنة لجعل الدساتير ضرباً من الخيانة والحرية ضرباً من الهوان. والبعض يؤرخ انقلاب العقيد حسني الزعيم، او الزعيم حسني الزعيم، على انه اول الانقلابات العسكري في العالم العربي. لكن الثورة المصرية وحدها كانت قادرة على ان «تشرع» الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح. والحجم السياسي والقومي الذي كان لجمال عبد الناصر هو الذي برر للاخرين سلسلة الانقلابات الاخرى في العالم العربي، بما فشل منها وما نجح. واصبحت لعبد الناصر بعد السويس هالة لم يعرفها زعيم عربي سواه، واخذ يبني لمصر موقعاً بين الامم، الى جانب العمالقة المستقلين حديثاً في الهند واندونيسيا ويوغوسلافيا وبدايات الوطنيين الافارقة مثل باتريس لومومبا، وكوامي نكروما وجومو كينياتا وجوشوا نكومو وغيرهم.

لكن عبد الناصر كان قد بدأ في الوقت نفسه يواجه حربين نهاشتين: الاولى حرب الاجنحة في الداخل بين اليسار واليمين، اي بين الذين رأوا ان علاقتهم مع السوفيات هي حلهم الشخصي في السلطة وحل مصر في الصراع السياسي والاجتماعي وبين اولئك الذين رأوا في الاتحاد السوفياتي مجرد بعبع شيوعي لا هم له سوى مصالحه.

الى اللقاء