كيف يمكن النهوض بالسودان؟

TT

كنت اتمنى ان ارى الخرطوم بعد طول غياب عنها وقد اصبحت مثل بيروت التي تحدَّت الأنقاض بعدما دمرت الحرب طوال ستة عشر عاماً اسواقها، وثقبت واجهات عماراتها الجميلة ألوف القذائف المصوبة بدقة من رجال الميليشيات لا سامح الله صغارهم وكبارهم... الصغار شأناً والكبار شأناً، على هذا الذي فعلوه بعاصمة كانت تتباهى برونقها الثقافي، وبصحافتها المتقبِّلة لتعدد الرأي، وبمقاهي الارصفة المقتبسة عن مقاهي باريس وروما، وبمطاعمها التي يُضرب المثل بأنواع اطايبها ورقي خدماتها، وبفنادقها على انواع نجومها التي يُضرب المثل ايضاً بنظافتها، وبصالوناتها الحزبية والسياسية التي استنبطت حيوية ما بعدها حيوية، وبشاطئها الذي كانت تتلألأ حول رماله ارقى المسابح التي تضاهي في رقيها عشرات المسابح المنتشرة على طول كورنيش مدن الساحل الفرنسي الجنوبي من مونت كارلو الى كان مروراًَ بعاصمة الجنوب نيس. ولا داعي للحديث عن بقية المباهج الجمالية والسياحية سهلاً وجبلاً، فهي كثيرة وكلها منيت بأفعال الميليشياويين الفلسطينيين الضيوف واللبنانيين اصحاب البيت على حد سواء.. اضافة الى «مجاهدين» انتسبوا الى هؤلاء جاءوا من دول كثيرة إما بغرض المساهمة في التدمير وقد نجح الغرض، وإما للعيش في رحاب «الثورة الشعبية» المتأججة نيرانها في لبنان التي بشَّر بها الزعيم الشعبي الاستثنائي المواصفات الراحل كمال جنبلاط، فوجد هؤلاء ان ما يجري هو مجرد مؤامرة دولية على بلد متميز وارتضوا التحول مقاتلين وخاطفي طائرات وخبراء في استحداث الشقاق.

الذي حدث ان عملية اعادة البناء في بيروت وسائر المناطق اللبنانية، بدأت لمجرد ان اوقف اتفاق الطائف تلك الحرب المجنونة.. وما كانت لتقف لولا جهود مخلصة من اهل الحكم السعودي بتوجيهات حازمة من الملك فهد بن عبد العزيز. والذي جعل التوجيهات تلقى التنفيذ دون تباطؤ هو أن ابناء الملك عبد العزيز يرحمه الله واحفاده جاهزون اصلاً لبذل ما من شأنه ان ينتشل لبنان، الذي طالما احبوه بالتوارث، من المحنة التي اصابته. وما فعله ولي العهد الامير عبد الله بن عبد العزيز ووزير الدفاع الامير سلطان بن عبد العزيز والامير سلمان بن عبد العزيز والامير سعود الفيصل من اجل تحويل اماني الملك فهد وتوجيهاته الى اتفاق يتم الارتضاء بتوازنه، تأكيد لما نقوله. وكان لافتاً للانتباه ان رجال الاعمال اللبنانيين، وبالذات اولئك الذين لهم مصالح واعمال في الدول العربية والافريقية وبعض دول العالم الصناعي، قاموا لمجرد أن اوجدت المملكة العربية السعودية الحل متمثلاً باتفاق الطائف، بهجوم مضاد على الهجمات الميليشياوية الوحشية طوال ستة عشر عاماً. ورأى هؤلاء من خلال الهجوم المضاد أن الرد على اسرائيل التي شاءت تدمير لبنان كصيغة للتعددية وكمركز استقطاب للمال العربي وكوطن ثان لأثرياء دول الخليج، وكذلك الرد على الميليشيات اللبنانية المخدوعة او المتآمرة او المجنَّدة لحساب آخرين لكي يشارك رجالها في عملية التدمير تلك... لقد رأى المقتدرون اللبنانيون من رجال الاعمال اللبنانيين الذين يعيشون في بلاد الاغتراب العربي والافريقي والاوروبي والاوسترالي والكندي ان الرد على المخطط الجهنمي للتدمير هو في استنهاض الهمم والبدء باعادة البناء. ولذا فإنه في خلال خمس سنوات تلت ولادة اتفاق الطائف بدأت العمارات الجديدة تنمو مثل غرسات الورد ومعظمها من النوع الجيد. وفي الوقت نفسه بدأ العمل في انشاء الطرقات واستكمال الاوتوسترادات وبناء مطار جديد وتنظيف العاصمة وسائر البلدات من مخلفات قاذورات سنوات الحرب والمباشرة بإعادة بناء منطقة الاسواق التجارية التي كانت اكثر ميادين جولات القتال العبثي. والذي ساعد على الانطلاق في عملية اعادة البناء ان الذي ترأس الحكومة كان لا ينتمي الى العائلات السياسية التقليدية وأنه رجل اعمال من نوعية لم يألفها لبنان تشهد له سنوات اعماله في المملكة العربية السعودية على الجدية والإتقان في ما تتولاه شركته من اعمال في مجال البناء، وبالذات ما هو كثير التعقيد مثل قصور الحكم والمؤتمرات والقصور الشخصية. والمقصود بهذا الشخص هو رفيق الحريري رئيس الحكومة الحالية الذي سبق ان امضى ست سنوات في هذا المنصب في اعقاب اتفاق الطائف تلتها سنتان من الإبعاد المتعمد له، ردَّ عليه بالعودة الى كرسي الرئاسة الثالثة اكثر قوة من ذي قبل بعدما حقق في الانتخابات البرلمانية فوزاً يشبه في بعض جوانبه فوز الرئيس محمد خاتمي سواء في الانتخابات النيابية في الجمهورية الاسلامية في ايران او في الانتخابات الرئاسية الاولى ثم في الانتخابات الرئاسية الثانية.

ولقد استمر الإعمار على رغم كل المماحكات والمشاحنات، وجولات العدوان الاسرائيلي التي كانت تستهدف محطات الكهرباء، وكثرة مواسم التحديات المزدهرة بين ديناصورات الحكم، وتقاسُم الرأي داخل الحكومة يقابله انقسام الرأي خارجها في شأن المقاومة المتمثلة في «حزب الله» والدور السوري المتواصل الذي يحظى برضى الرؤساء الثلاثة، رئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة رفيق الحريري، عن هذا الدور وتمسّكهم به. ومقابل هذا الرضى هنالك الغضب الجارف المتقطع من جانب بعض أقطاب الطائفة المارونية المقيم منهم والمهاجر والمهجَّر على الدور السوري والمطالبة بإنهائه، معتمدين في ذلك على بعض اعضاء الكونغرس الاميركي أملاً في ان يُقنع هؤلاء ادارة الرئيس جورج بوش بالتعامل مع سورية على نحو تعامُلها مع نظام الرئيس صدام حسين. وهكذا فإن عملية البناء استمرت ، وكانت إقامة المشاريع الخاصة تتوقف ثم لا تلبث أن تُستأنف، والديون التي تتراكم لا تنقص متلازمة مع سعي دؤوب من اجل الحصول على المزيد من الودائع والمزيد من القروض الكبرى بمعنى أن تأتي من تجمّع دولي وليس من دولة واحدة. كما أن الاماني لا تزال قائمة في أن تتوافر ظروف دولية يجني منها لبنان بعض المكاسب، ومن بين ذلك إلغاء قسم من الديون عليه في الحد الأقصى وشطب قسم من هذه الديون وفوائدها في الحد الأدنى.

ومع أن هنالك فعاليات اقتصادية وتجارية لبنانية لم تقرر بعد المساهمة بما تملكه من قدرات مالية في إعادة عملية الانهاض الكاملة، إلاّ ان نسبة رجال الاعمال الموزعين على بلاد الاغتراب الكثيرة الذين بدأوا ويواصلون المساهمة في العملية تلك ما زالت هي الاكبر، يضاف اليها إقبال ملحوظ لرجال الاعمال العرب على الاستثمار والتوظيف من بينهم رجل الاعمال السعودي الأبرز الامير الوليد بن طلال بن عبد العزيز الذي بدأ الاستثمار الفندقي. ويبدو أن هذا الاستثمار سيتزايد ويأخذ أكثر من منحى وتوجُّه.

وفي تقديرنا أن هذا الإصرار على تحويل إرادة إعادة البناء في لبنان وبحيث يصبح البلد على صعيد العمران والمشاريع أكثر أهمية مما كان عليه قبل ابريل (نيسان) 1975 عندما اشتعلت شرارة الحرب التي دامت ستة عشر عاماً ودمرت ما أمكنها تدميره، هو أن المغتربين اللبنانيين كثيرون وأن رجال الأعمال والمقتدرين العرب من أصحاب الرساميل وفيرون، وأن الذي يترأس السلطة التنفيذية هو رجل اعمال كبير وصاحب مشروع إعماري طموح، وهذا ما يجعل أهل المال يرتاحون ويطمئنون ومن منطلق أن من يحرص على ماله ومصالحه لا بد سيحرص على مال الآخرين ومصالحهم واستثماراتهم... هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الإسراع في البناء والاستثمار في لبنان لم يحدث من باب التطلع الى الكسب التجاري وحسب بل حب في لبنان ورغبة بإعادته الى سابق عزّه.

وفي العودة الى ما بدأناه نقول ان الذي عاشه لبنان حرباً وصراعات هو أكثر خطورة من الذي عاشه السودان ولا يزال. وحيث ان التركيبة متشابهة الى حد ما، ورأس السلطة عسكري الأصول كما هي الحال في لبنان، والإيمان بالتعددية والتراث الديمقراطي مشترك، والتربة خصبة للاستثمار والحاجة ملحة للبناء، فإن استعانة الرئيس عمر حسن البشير برجال الأعمال لكي يخوض بأحدهم الإنهاض على النحو الذي حدث مع الحريري في لبنان يبقى الحل الأفضل. ويبقى هذا الأمر هو المطلوب كي لا يزور المرء مثل حالي الخرطوم مرة ثانية وبعد طول غياب مماثل للغياب الاول ويجدها دون ما تستحقه من عمارات عصرية وشوارع معبدة وفنادق واسواق ومقاه ومطاعم ومطار. فالعنفوان وحده لا يكفي. ويا ليت الرئيس البشير كان قد شارك في القمة العربية الدورية الثانية وقام بجولة سريعة يرى فيها أي بدايات نهوض حدثت في العاصمة بيروت التي استضافت القمة. كما يا ليته يزور لبنان الناهض من وهدة الحرب ويرى من دون استعجال العودة نتائج إعادة بناء بدأت على ايدي المغتربين من أبناء لبنان، وهم قلة قياساً بالمغتربين من أبناء السودان. ثم أليس السودان بات نفطياً، أليس هو باب المشرق الى افريقيا، ومن البدهيات ان يكون باب العبور بين المشرق بخليجه ودوله التي على شاطئ المتوسط وبين افريقيا متلألئاً في سماء القارة؟

... وللانطباعات عن السودان كيف يهدأ سياسياً وينهض اقتصادياًَ وعمرانياً بقية.