الصهيونية نقلت يهود العالم من «غيتوات» صغيرة إلى «غيتو» كبير يدعى إسرائيل

TT

بعد مرور شهر على الانتفاضة الفلسطينية، والالمام بعشرات بل مئات المقالات والاحاديث والمقابلات الصحافية والسمعية ـ البصرية، من عربية وعالمية يمكن تلخيص الاوضاع او رسم الحالات الراهنة، في فلسطين والعالم العربي والمجتمع السياسي الدولي بالملاحظات التالية:

اولا: لقد حققت هذه الانتفاضة صدمة في ضمير الاسرائيليين والعرب والمجتمع الدولي، ونقلة موضوعية مهمة في عملية السلام، بل في الصراع العربي ـ الاسرائيلي. فعملية السلام المنطلقة من اتفاق اوسلو، والتي كانت الولايات المتحدة تقودها، ومن فوق يدها اليد الاسرائيلية، قد تعطلت مسيرتها المستمرة منذ سبع سنوات. وايا كان مصير الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، فإن ورقة المماطلة واللف والمساومات، او «الحلول العملية» الاميركية، قد سقطت من ايدي تل ابيب وواشنطن. ولا بد لاستئناف محادثات السلام وانجاحها، من منطلقات جديدة واسلوب جديد. وأهم من ذلك، لا بد من تسليم اسرائيل والولايات المتحدة، ولو مبدئيا بكل الحقوق الفلسطينية التي اقرتها الأمم المتحدة.

ثانيا: ان الانتفاضة مرشحة للاستكانة او الانتهاء اذا لم تلق دعما عربيا حقيقيا رسميا وشعبيا، ماليا واقتصاديا وسياسيا واعلاميا، او اذا عادت اسرائيل الى احتلال كل الاراضي الفلسطينية «المحررة» والقضاء على السلطة الفلسطينية وقواتها المسلحة، ولا نعتقد بأنها تجرؤ على مثل هذا العدوان الكبير الذي سيقود حتما الى حرب عربية ـ اسرائيلية جديدة. ولكن الانتفاضة مرشحة للتحول الى مقاومة وحرب استنزاف على الاراضي الفلسطينية، اذا عرفت السلطة الفلسطينية والدول العربية والاسلامية كيف تحقق هذا التحول، (كما نجحت اليهودية العالمية في دعم الحركة الصهيونية في فلسطين سابقا ولا تزال تدعمها حاليا). ولكن هذا النجاح يفترض لا مزيداً من الدعم والمساعدات للشعب الفلسطيني، فحسب، بل يتطلب خطة او استراتيجية عربية ـ فلسطينية مشتركة واقعية وقابلة للتنفيذ رغم ما قد تصطدم به من معارضات دولية ومقاومة اسرائيلية لها. ولا يمنع ذلك من الاستمرار في المحادثات والمفاوضات كما تفعل اسرائيل. ولكنه يخلق تدريجيا معطيات جدية للقضية يلعب المفاوض الفلسطيني او العربي اوراقها.

ثالثا: لقد حققت الانتفاضة بحد ذاتها، والاعلام العربي من ورائها مكاسب مهمة على صعيد الرأي العام العالمي. وقليلون في العالم اليوم بمن فيهم اعداد من اليهود المستوطنين نهائيا في الغرب، هم الذين لا يتعاطفون او يؤيدون حقوق الشعب الفلسطيني، او ينعون على اسرائيل مواقفها الرافضة لهذه الحقوق وردها على تظاهرات الشبان الفلسطينيين وحجارتهم بالرصاص والصواريخ. ولكن الاعلام الاسرائيلي ساهر وعامل على محو هذا الانطباع المتعاطف مع الشعب الفلسطيني، معتمدا، في الدرجة الاولى على اعمال العنف او الارهاب الاعمى المرتكبة، في لحظة غضب او يأس من قبل بعض المتطرفين العرب وعلى بعض التصريحات غير المسؤولة التي تنادي «بازالة اسرائيل من الوجود» او بالقضاء على اليهود في العالم، او «باعلان الحرب على الولايات المتحدة واسرائيل». ان ضبط مشاعر الشبان الفلسطينيين الثائرين وعن حق على الاحتلال والعدوان والاغتصاب الاسرائيلي، ليس سهلا، ولكن حرمان اسرائيل مما يساعدها اعلاميا على كسب الرأي العام الدولي، لا يقل اهمية عن كسب هذا الرأي العام، باستغلال الاخطاء والجرائم الاسرائيلية.

رابعا: من الطبيعي او المنتظر تركيز بعض وسائل الاعلام الفلسطينية والعربية. ولا سيما تلك التي يشرف عليها متطرفون عقائديون او قوميون راديكاليون، على «الهوة التي تفصل بين الحكام والشعوب». وتحويل المعركة الجارية على ارض فلسطين من معركة سياسية ووطنية من اجل سلام عادل وشريف، الى معركة ضد الانظمة العربية «المتقاعسة والعميلة والخ...» او الى معركة بين المسلمين واليهود، بل «بين المسلمين والغرب» وتلك ليست بالمرة الاولى التي يجنح فيها الفكر السياسي العربي، في تاريخ الصراع العربي ـ الاسرائيلي بالبحث عن اسباب الفشل خارج نطاقها الحقيقي والفعلي، وناسباً اياها الى «مؤامرة عالمية ضد العرب والمسلمين» او ترفع فيه شعارات اسقاط الانظمة الحاكمة في العالم العربي كطريق لتحرير فلسطين وانه لجنوح فكري ولشعارات سياسية قادت في الماضي واكثر من مرة الى نكسات ونزاعات عربية استفادت منها اسرائيل لضرب الامة العربية، وتحقيق مكاسب جديدة ولا تزال الدول والشعوب العربية تعاني منها حتى الآن.

خامسا: من اهم المكاسب السياسية التي حققتها الانتفاضة هو الارباك السياسي الذي اصيبت به الحكومة الاسرائيلية. فباراك سواء بقي في الحكم او اطاح به حزب الليكود في الانتخابات القادمة، يحيا كما يحيا الشعب الاسرائيلي، معه مأساة مصيرية حقيقية، فبعد ان وصلت «لقمة» السلام والاعتراف العربي باسرائيل «الى الفم» ها هي اليوم تبتعد. ومهما كابر باراك او شارون معه او من بعده فإن الاسرائيليين باتوا يعرفون جيدا ان امامهم خيارين: اما التسليم بقرارات الشرعية الدولية التي تعيد الى الفلسطينيين حقوقهم الاساسية، واما العيش سنوات طويلة ودائما في «غيتو كبير» مسيج بالاسلاك الشائكة والجدران العالية، ومحاط بالاعداء وهكذا تكون العقيدة الصهيونية الطريق السياسي الذي نقل يهود العالم من غيتوات صغيرة، الى غيتو موحد كبير، ولن تفيد اسرائيل قنابلها النووية ولا تكنولوجيتها العسكرية والاقتصادية للشعور بالامن والسلام.

سادسا: لا شك في ان قضية القدس تشكل عقبة كبيرة في طريق التفاهم والسلام الفلسطيني ـ الاسرائيلي، بل السلام الاسرائيلي ـ العربي الاسلامي. ولكن الاقتراحات الاميركية الاسرائيلية الاخيرة في قمة كامب دافيد، لم تعد بعيدة جدا عن حل يرضي مشاعر ومطالب الفلسطينيين والعرب والمسلمين. واننا نعتقد بوجود مثل هذا الحل، وان اسرائيل سوف تقبل به، عاجلا او آجلا كما نعتقد بأن مبدأ قيام دولة فلسطينية اصبح مسلما به من قبل اسرائيل والولايات المتحدة والعالم. اما قضية اللاجئين الفلسطينيين وقضية المستوطنات، فهما اللتان تشكلان العقبة الصعبة او الكأداء في طريق السلام والتعايش أو الجوار الحسن بين الدولة العبرية والدولة الفلسطينية ولا مناص لاسرائيل من ازالتها كلها او اربعة اخماسها، على الاقل اذا ارادت التعايش السلمي مع دولة فلسطينية.

سابعا: خلافا لما ذهب اليه كثيرون فإن القمة العربية قدمت ما يمكن لحكومات مسؤولة وأعضاء في الامم المتحدة. وفي ظل النظام العالمي الراهن، الذي تتحكم فيه او ترعاه او تهيمن عليه الولايات المتحدة الاميركية تقديمه اليوم وهو ليس بضئيل اذا ما اقترن بالتنفيذ ولكن ما تستطيع الدول العربية تقديمه، غدا وبعد غد، لنصرة الشعب الفلسطيني ومساعدته على الصمود والمقاومة واستعادة حقوقه، فأكثر بكثير من ذلك. انما اهم من التقديمات هو التخطيط او ما يسمى بالاستراتيجية. و الافتقار الى استراتيجية فلسطينية ـ عربية ـ اسلامية واحدة، تواجه الاستراتيجية الاسرائيلية ـ الاميركية المشتركة، هو ما يعيق استعادة الحق العربي في فلسطين، بل هو ما يبقي الدول والشعوب العربية، متخلفة عسكريا واقتصاديا عن اسرائيل بل هو ما يبدد ويهدر الطاقات العربية. وقد يكون شعار وضع استراتيجية فلسطينية ـ عربية ـ اسلامية مشتركة لمواجهة الخطر والتحديات الاسرائيلية، هو شعار «ما بعد الانتفاضة» لا غيره من الشعارات التي قد تقودنا الى نكبة او هزيمة جديدة، من نوع نكبة 1948، وهزيمة حزيران 1967.

ثامنا: لقد كشفت الانتفاضة وردود الفعل عليها في اسرائيل والعالمين العربي والاسلامي ان اكثرية الفلسطينيين والعرب والمسلمين، لا يؤمنون بالسلام الذي ترعاه الولايات المتحدة الاميركية، وان اكثرية الاسرائيليين، يخافون منه فأصوات انصار السلام هنا وهناك، خفتت امام اصوات العنف والقوة والحرب. ولكن الحل السلمي العادل للنزاع العربي ـ الاسرائيلي يبقى الخيار الافضل، في عصر اسلحة الدمار الشامل والحروب المستحيلة الكسب او غير الحاسمة. وحتى لو وصل المتطرفون او الراديكاليون الدينيون الى الحكم في اسرائيل والدول العربية والاسلامية فإنهم سوف يترددون كثيراً قبل اشعال نار حرب عربية ـ اسرائيلية، أو إسلامية ـ يهودية، تتحول فورا الى حرب عالمية اي الى القضاء على البشرية.

هناك من يعتقد حتى بين اليهود، بأن قيام اسرائيل هو من مؤشرات اقتراب «قيام الساعة». مثل هذه «التنبؤات» او «الرؤى» لا علاقة لها بالسياسة والواقع ، ولكن كثيرين اليوم، هم الذين باتوا يعتقدون بأن النزاع العربي ـ الاسرائيلي، اذا لم يوجد له حل سياسي سلمي، يحمل في طياته بذور ازمة عالمية قد تضع العالم على شفا حرب عالمية.