«امش مع الكذاب إلى عتبة الباب»

TT

صدر بيان القمة مرفقا ببضعة قرارات مصاغة (البيان والقرارات) بلغة أهل «الاعتدال» متوافقة مع رؤية جماعة «الواقعية».

وفور ختام القمة صرح «نخمان شاي» الناطق الرسمي باسم الحكومة الاسرائيلية، حتى قبل ان يطلع على نص البيان كاملا، بأن بيان القمة تميز بالحكمة والعقلانية وان «القمة» أوضحت لعرفات ان العنف لن يوصله الى شيء.

ثم جاء رد باراك العملي الفوري، بعدما قال لنفسه: حسنا ايها العرب، ما دمتم بهذه الحكمة والعقلانية رغم لغة تهديدكم المبطنة، اليكم جواب القوة ـ اللغة التي تجيدون فهمها.

ها أنا اضع «خيار السلام» الذي تراهنون عليه في الثلاجة لتحوم المروحيات نافثة رصاصها وصواريخها، ولتقذف الدبابات قنابلها، وانتم يا جنود «يهوه» صوبوا جيدا، كما دربتم، في الصدر والرأس، وتذكروا أن «موت غير اليهودي جيد لليهودي» ـ يقول يهوه، رب الجنود. لم يكن اقتحام شارون، مجرم الحرب بشكله الخنزيري الدنس، الا تلك القشة اياها التي قصمت ظهر بعير اوسلو الاجرب (يقال بالعبرانية: بعير، لكل ما يحمل).

اذن، بغى رابين ان يركب بعير اوسلو الى «نهاية النزاع» وفقا لقماشة اسرائيل وخياطتها للسلام أو قل أراد ان يركب عرفات، وكأني بعرفات، اليوم، الذي صرخ أخيرا في وجه باراك الصلف: اذهب الى الجحيم! يردد قول خالد بن زهير الهذلي:

فإن كنت تبغي للظلامة مركبا ذلولا، فإني ليس عندي بعيرها أراد عرفات، ايضا، ان يركب بعير اوسلو الى ما تبقى من حق في فلسطين ـ الحد الأدنى، أي، فلسطين القرارات الدولية، أي، العشرون في المئة من فلسطين التاريخية.

اعطوه غزة واريحا، أولا، على ان تكون أخيرا، مع فكة من نسب معصوقة، هنا وهناك ارادها عرفات البراغماتي: غزة واريحا أولا ـ فلسطين (67) تاليا. كان التفكير الاسرائيلي يراهن على قبول عرفات، وتاليا، اقناعه لشعبه بقبول دولة (بين مزدوجين) على 60 بالمئة من قطاع غزة و42 بالمئة من الضفة ـ حسب التسوية التي يقترحها اليمين ـ أو كل غزة والقطاع و ما بين 60 الى 80 بالمئة من الضفة ـ في أحسن حالات سخاء باراك الممدوح من كلينتون ـ ، بالطبع مع بقاء 80 بالمئة من المستوطنات والقدس موحدة تحت سيادتهم والحدود مع الاردن تحت سيطرتهم وتمييع قضية اللاجئين، باختصار، اختلاق ضرب من اتفاق استسلام، يسمونه سلاماً، تحت مظلة احتلال ملطف غير قابل للنقض بحسبانه محكوما بمعاهدة غير قابلة للمراجعة، تختم «النزاع» ولا مجال بعدها لمطالب سيادية.

في كامب ديفيد رفض عرفات ان يكون «ساداتا فلسطينيا»، بمعنى ان السادات، في لب المسألة، قدم تنازلا (ضخما) صحيح انه أخذ سيناء (مشروطة السيادة، منزوعة السلاح) ولكن مقابل اخراج مصر من مركز الصراع وتكبيل دورها القيادي في الدفاع عن الأمن القومي لأمتها، وذلك بجعل مصالحها الوطنية الضيقة هي اساس مرجعها المرتبط بمرجعية المصالح الأمريكية في المنطقة. لقد نجم عن كامب ديفيد (1) اخراج مصر من معادلة الصراع العربي ـ الصهيوني، واسقاط ثقلها الاستراتيجي من المواجهة العسكرية، وبالتالي، ترك سوريا لتتحمل، وحدها، عبء ملء الفراغ الهائل في التوازن الاستراتيجي المائل لصالح العدو، وكذا سحب الغطاء القومي عن القضية الفلسطينية، الأمر الذي اطلق العنان للعدوانية الصهيونية لتفعل ما فعلت في لبنان والعراق، وداخل فلسطين المحتلة، من تهويد للقدس وضم اراض وزرع مستوطنات في عمق غزة والضفة. والى ذلك، فإن تكبيل دور مصر القيادي القومي سمح بظهور صدام حسين المهووس باختراع امهات الكوارث التاريخية، فكان ان جر معه شطرا من العرب الى اختلاق «قادسية» دمار وخراب بذريعة الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية، ثم الحقها بكارثة غزو الكويت، التي ذهب العرب على اثرها الى مؤتمر مدريد ممزقين وقد انعكس تمزقهم في تمزق وحدة مساراتهم التفاوضية، فكانت «اوسلو». واذا كان لاتفاق اوسلو من منفعة، وله ذلك، هو انه ادخل الى فلسطين نحو 150 الف فلسطيني، بينهم نحو 50 الف مسلح، واجبر اسرائيل، وان بعد عشر سنوات من المماطلة واللعب بالوقت، على تفاوض على قضايا جوهر الصراع، وعندها بان الموقف الاسرائيلي على حقيقته الصهيونية في كامب ديفيد (2) وعندها، ايضا، انتهى دور «اتفاق اوسلو» متوافقا مع المثل القائل «امش مع الكذاب إلى عتبة الباب» ومعروف من هو الكذاب.

كان اتفاق اوسلو نصا مائعاً، حمل اوجهاً وقراءات، ارادت اسرائيل منه تمييع حقوق الفلسطينيين، بحيث ـ حسب محلل اسرائيلي ـ «تواصل اسرائيل السيطرة الكاملة حتى لو قامت دولة فلسطينية. فالسلطة الفلسطينية أو الدولة الفلسطينية ستبقى معسكر عمال كبير، مع اطار وطني، وفي المستقبل ايضا سيعيش الفلسطينيون معتمدين على اسرائيل. لقد تبين للسلطة الفلسطينية انه في هذه الاتفاقات محفوظ لهم، مع الفارق الجغرافي، مكان جيش لبنان الجنوبي».

السلطة الفلسطينية أو قل عرفات كان يراهن على ان اتفاق اوسلو المرحلي يمكن ان يكون تكتيكا براغماتيا يطور حل العقبات خطوة خطوة على مبدأ «خذ وطالب» حتى الاستحقاق النهائي للاستقلال التام.

ولكن، عند الامتحان الحقيقي لقضايا الحل النهائي الجوهرية انكشف الملعوب الصهيوني على نحو بين لا لبس فيه، واكتشف الفلسطينيون، في كامب ديفيد (2)، انهم ـ على حد تعبير نبيل شعث ـ «فعلنا ما كنا نفعله ايام الدراسة (الاحتفاظ بأصعب الموضوعات للنهاية قبل فترة قصيرة من الامتحانات) ندرس المواد السهلة أولا، ونترك المواد الصعبة للنهاية على أمل اننا بعد تحقيق الممكن، فمن الممكن مواجهة الامور الصعبة».

ولما تبين لباراك انه لم يعد بوسعه ان يفرض لاءاته بالتفاوض والضغط الامريكي، بعث بدباباته ومروحياته وقناصيه، ليفرض على الارض بالحصار والتدمير والقتل، مخططاته التي فشل في فرضها على طاولة المفاوضات.

وبذلك قبر اتفاق اوسلو إلى الأبد، و«انتهت المسيرة السلمية بمضمونها الحالي» ـ كما صرح عمرو موسى، وزير الخارجية المصري ـ وبالتالي دخل الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني (العربي) في طور جديد مفتوح على احتمالات معقدة ونتائج خطرة، مقدماتها تطبخ في اسرائيل، التي هي اليوم تعيش في حالة من جنون القوة والشيزوفرينيا السياسية والعفن العنصري وبقيادة جنرال ارهابي لم يعد يهمه إلا انقاذ مستقبله السياسي ولم يجد امامه ما يتمسك به لانتشال نفسه من الغرق إلا شارون الغارق في دماء ضحاياه. والنتيجة من حاصل جمع الاثنين حكومة قتلة، وعقد حلف بين شيطانين، سيزايد احدهما على الاخر بمزيد من قتل الفلسطينيين. اما مشروعهما «الوطني» المشترك فهو الفصل من جانب واحد، تنفيذ مخطط عقاب جماعي للشعب الفلسطيني، اقامة معازل (= معتقلات) فصل عنصري خسيس غايته سجن الشعب الفلسطيني واذلاله على أمل اخضاعه بقطع اتصاله بالعالم وتدمير اقتصاده وتجويعه وقصفه بالدبابات والمروحيات. هذا هو مفهوم اليهود الصهاينة لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم! والتعايش المشترك! حسب شعارهم الصهيوني «نحن هنا وهم هناك» أو «اخراج غزة من تل ابيب».

[email protected]