رئيس لا غنى عنه... وحكومة كثيرة الدسامة

TT

لم يحدث أن استقبل اللبنانيون إعلان تشكيل حكومة جديدة على نحو استقبالهم عصر يوم الخميس 26 اكتوبر (تشرين الأول) 2000 للحكومة الجديدة. وكان المألوف أن اللبنانيين يستمعون من إذاعاتهم أو محطات التلفزيون إلى صدور المراسيم القاضية بتشكيل الحكومة، أو حتى ينتظرون ومن دون أي استعجال أو تلهُّف إلى صباح اليوم التالي لقراءتها في الصحف، إلا أنهم بالنسبة إلى هذه الحكومة كانوا كما لو أنهم يعيشون حالة طوارئ أو حالة انتظار استثنائية... أو إذا جاز التشبيه كانت حالة الواحد منهم مثل حالة من ينتظر ولادة عسيرة ويريد للأم وللطفل السلامة.

كان اللبنانيون في أكثريتهم عصر ذلك اليوم إما أمام التلفزيونات في بيوتهم، أو مكاتبهم أو محلاتهم ودكاكينهم، وإما إلى جانب الترانزستور أو الراديو العادي في انتظار نبأ بالغ الأهمية أو نبأ بالغ الخطورة. النبأ بالغ الأهمية هو أن يتحقق الوفاق بين قطبين صعبي المراس هما رئيس الجمهورية العماد إميل لحود ورئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، الذي كلفه رئيس الجمهورية في اليوم الثاني من عودته من القمة العربية الاستثنائية في القاهرة، وبعد استشارات تمليها الطقوس الدستورية اجراها مع أعضاء أول مجلس نيابي في عهد الرئيس لحود، تشكيل حكومة جديدة. وأما النبأ بالغ الخطورة فهو أن يصطدم التشاور وتبادل وجهات النظر بين القطبين الصعبي المراس بعدم تبادل المرونة والتنازل، فيقرر الحريري الاعتذار عن عدم تشكيل الحكومة ـ على نحو ما حدث في بداية عهد الرئيس لحود ـ ويدخل البلد في دوامة يعمل رئيس الجمهورية على معالجتها من خلال الإسراع بتكليف شخصية سنية أخرى لتشكيل الحكومة أو ربما يعيد تكليف حليفه وصديقه الرئيس سليم الحص بتشكيل حكومة من وجوه جديدة مقبولة تفادياً للاحتجاج الشعبي المحتمل حدوثه كرد فعل.

انتهى الأمر على خير وانتهى انتظار اللبنانيين القلقين إلى انه تَحقَّق لهم ما تمنوه، وكان النبأ الذي أذيع هو النبأ بالغ الأهمية، أي اتفاق القطبين الصعبي المراس على حكومة فاجأت اللبنانيين من جهة وأدخلت الخشية إلى نفوسهم من جهة أخرى. بل إن المفاجأة السارة امتزجت في الوقت نفسه بالخشية التي تثير القلق، وهذا سببه ان الحكومة الأولى للحريري في عهد الرئيس لحود كثيرة الدسامة، اذ أنها تتشكل من ثلاثين شخصاً وليست كما يتمنى رئيسها الذي كان ـ منذ أن سبق تكليفه شعبياً وبرلمانياً التكليف الرسمي بتشكيل الحكومة ـ يتطلع إلى حكومة لا تكون فضفاضة وكثيرة الدسامة وتكون عبارة عن فريق عمل متجانس تلبي طموح رئيسها في ان يحقق عملية إنقاذ للوضع الاقتصادي والمعيشي الذي اقترب من حافة الهاوية من دون أن ينشغل باعتراضات من هنا ومسايرات من هناك مستفيداً من تجربة الحكومات الثلاث التي شكَّلها خلال ست سنوات أمضاها رئيساً للوزراء، وهو ما لم يحدث لأحد غيره.

على رغم امتزاج المفاجأة السارة بالخشية، فإن ارتياح اللبنانيين إلى ولادة الحكومة الجديدة، وبرئاسة رفيق الحريري، كان بمثل ارتياحهم إلى اختيار العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية قبل أقل من سنتين. وفي الحالتين كان سبب الارتياح هو الوضع الاقتصادي المتدهور. ويصعب على المرء التكهن بما إذا كان في استطاعة الرئيس الحريري بهذه الحكومة كثيرة الدسامة، التي تبدو وكأنما هي برلمان آخر، أن يحقق المرجو منه والمؤمل فيه.. إلا اننا من باب الافتراض نقول ان هذه الحكومة هي التمهيد للحكومة التي لا بد من مجيئها بعد سنة وتكون حكومة بنصف العدد الحالي وتكون بالفعل فريق العمل الذي يريده الرئيس الحريري.

وخلال هذه السنة تكون اتضحت أمور كثيرة، من بينها ان العملية السلمية ستنجو وتنتعش، او ان الحرب العربية - الإسرائيلية الرابعة ستحدث. ومن بينها أيضاً أن الانتفاضة الفلسطينية ستتواصل، أو ان الدولة ستقوم وتكون القدس عاصمتها. ومن بينها أيضاً وأيضاً أن الحصار سيُرفع عن العراق، أو أنه سيستمر. وفي الحالات الثلاث وغيرها فإن لبنان طرف أساسي، ذلك أنه إذا كانت العملية السلمية لن تنجو ولن تنسحب إسرائيل من الجولان وتحدث الحرب العربية ـ الإسرائيلية الرابعة فإن لبنان سيكون أكثر الجبهات سخونة وقد نراه، وهو المثخن بجراح الاحتلال وتداعيات الحرب الأهلية أو حرب الآخرين فيه وعليه والتي عاشها حوالي ست عشرة سنة، يعتمد إقتصاد حرب شأنه في ذلك شأن سورية ومعظم دول المنطقة وبالذات مصر والأردن اللذان بدآ يعيشان في السنوات العشر الماضية بعض الازدهار. وإذا كانت الانتفاضة الفلسطينية ستتواصل ولن تقوم الدولة وعاصمتها القدس، فهذا معناه أن النجدات الخليجية للحريري العائد إلى رئاسة الحكومة ستتأثر، عملاً بقاعدة أن الدول الخليجية تضع الحالة الفلسطينية في مقدمة الاهتمامات، في حين كان الذي سيحدث لو أن الحريري عاد رئيساً للحكومة وليس هنالك انتفاضة في غزة ومعظم مدن الضفة الغربية، أن الدول الخليجية ستجد من الضروري، ومن مصلحتها، دعم الحريري بالكثير من الاستثمارات وببعض الودائع التي من شأن وضعها في مصرف لبنان المركزي جعل الحيوية تتدفق في الشريان الاقتصادي اللبناني الذي قارب على دخول مرحلة التيبُّس. أما إذا حدث وانتهى أمر الحصار المفروض ظلماً على العراق برفع هذا الحصار، فإن خيراً كثيراً سيعود على لبنان المستحبة مساعدته من العراق، بينما لن تكون الاستفادة كبيرة للبنان في حال استمر الحصار مفروضاً على نحو ما هو عليه.

عندما كان اللبنانيون يتابعون النشاط الانتخابي للحريري وجدوا فيه شخصاً جديداً سواء وهو يخاطب الناس فلا يُغدق في الوعود، أو وهو يختلط بالناس خلال المهرجانات التي تقام له فلا يخشى المخاطر. كذلك وجدوا فيه الشخص الذي كانوا في الماضي يرون موكبه أكثر مما يرون وجهه. وعندما اشتدت وطأة الكيد عليه والتجريح به، فإنهم وجدوا فيه رجل الدولة الذي بات قادراً على أن يكظم غيظه بعدما كان في معظم سنوات ترؤسه للحكومة في عهد ما اصطُلح على تسميته بـ «الترويكا» يغادر اجتماع البرلمان إذا تناوله نائب بالنقد. وها هو اليوم بعدما عاد إلى السراي التي بناها، وتابع مراحل عملية البناء مرحلة مرحلة، يرون فيه زعامة تحققت عن جدارة ومن دون أن يكون وراءه حزب، كما أنهم يرون فيه قدرة على أن يكون واسطة العقد لكل أحزاب لبنان التي التفَّت حوله بعدما كانت في الماضي أشبعته التفافاً عليه. وحتى «حزب الله» الذي آثر أن يُبقي نفسه خارج التركيبة الحكومية لا ينظر إلى الحريري على نحو نظرته إليه في الماضي. ولقد ساعد على تعديل هذه النظرة الحضور الوطني لشقيقته بهية التي لم تعتبر عضويتها في مجلس النواب اللبناني تشريفاً وإنما تكليف تترتب عليه واجبات وطنية تتلازم مع أجواء التحرير التي تحققت بتضحيات لمقاتلي «حزب الله» باتت مضرب المثل في العمل الجاد لمقاومة الاحتلال. وكان لا يمر يوم منذ ابتعد الحريري، أو ابتعدوه، عن أن يكون رئيس الحكومة في عهد العماد لحود، الا ويلاحظ اللبنانيون حضور بهية الحريري في كل مشهد يرمز الى المقاومة وكانت بذلك كمن تقول انها ليست هنا بصفتها الشخصية فقط وانما هي تمثل شقيقها الرئيس أيضاً.

وطوال الابتعاد القسري ـ الاختياري للحريري استمر العالم ـ عرباً وأجانب ـ يتعامل معه على أنه السابق اللاحق أو الذاهب العائد، أو أنه القطب السياسي الذي لا بد لزوار لبنان من كبار الرسميين من الاجتماع به دون غيره من رؤساء الحكومة السابقين. وفي معظم الأحيان كان السفراء المعتمدون لدى لبنان ينوبون عن حكوماتهم في الاجتماع بالحريري، وتكون زياراتهم للاستئناس بالرأي وليس من باب التعارف وتمتين العلاقة على نحو ما هو مألوف. وهذه النظرة العربية والدولية الى الحريري، الذي ابتعد أو ابتعدوه، كانت هي الأخرى من بين الحيثيات التي جعلت اللبنانيين يتأكدون من أن عدم تعاون الرئيسين لحود والحريري هو السبب في أن عجلة البناء توقفت وفورة الأعمال كسدت، وهو السبب أيضاً وراء احباط اجتماعي أصابت شظاياه الجميع.

ويبدو أنه كان لا بد للحريري لكي يعود رئيساً للحكومة أن يثبت أنه قوي. ثم جاءت الانتخابات النيابية الأخيرة لتؤكد أنه بات الأقوى بين رموز العمل السياسي في الطائفة السنية، وأنه القطب الوحيد بين هذه الرموز الذي حظي بترشيح على المستوى الوطني بأمل أن يحقق وفاقاً مؤجلاً. ومن أجل ذلك ضاقت رقعة التردد والاحراج له بهدف اخراجه وفي الوقت نفسه اتسع هامش التحمل عنده وأتقن تماماً اللعبة السياسية بكل ما تحويه من مناورات ومقايضات. وعلى هذا الأساس جاء رئيساً لحكومة كل لبنان ولم يؤتَ به، وجاء يفرض من يريد مقابل التجاوب مع المفروضين عليه. وفي قانون لعبة الحكم يكون الفرق كبيراً بين من يأتي الى رئاسة الحكومة بما يشبه التزكية الشعبية والبرلمانية له، وبين من لا يُؤتى به بفعل الكيد... وحجة عدم الارتياح والانسجام.

ويبقى أن اللبنانيين، الذين أضناهم شظف العيش، على موعد مع أربع سنوات من التعاون الذي لا بد منه بين رئيسين صعبي المراس تأمَّل كل منهما ملياً في تجربة الماضي ووجد فيها من العِبَر ما من الضروري الاعتبار به. وفي التعاون خير لهما... وللبنانيين.