انفصام الشخصية الأمريكية

TT

تفضح انتفاضة القدس الولايات المتحدة الامريكية بصورة علنية، بأن ما تعلنه من مبادئ انسانية، حقوق الانسان، ومن قيم سياسية، الحرية والديمقراطية، يتناقض مع تصرفاتها العملية التي تنتهك حقوق الإنسان، وتعمل على فرض العبودية بدعم غير محدود للديكتاتورية، إلى الدرجة التي جسدت انفصام الشخصية السياسية فوق المسرح الدولي، واصبحت بالفعل الرجل المريض بالقوة، في بداية القرن الواحد والعشرين، تماماً كما كانت الدولة العلية العثمانية الرجل المريض بالضعف في بداية القرن العشرين.

اصابة امريكا بمرض القوة في ظل معاناتها من «الشيزوفرينية» السياسية، جعل منها دولة خطرة على الحياة الدولية لانها تسعى في الارض فساداً تغتال الحرية التي تطالب بها، وتقتل حقوق الانسان التي تدافع عنها وتتطاول على الديمقراطية التي تنادي لها. واتقنت امريكا بانفصام شخصيتها السياسية القيام بالدور المزدوج على المسرح الدولي تارة بالمظهر الطيب امام العالم من خلال سعيها إلى السلام في اقليم الشرق الأوسط، وتارة اخرى بالمظهر الشرير الذي يدعم اسرائيل في قتل الفلسطينيين بعد تجريمهم بالدفاع عن حريتهم ونضالهم في سبيل تحرير وطنهم من الاحتلال الاسرائيلي، بالادعاء الباطل ان ما يقومون به من كفاح هو ارهاب يجب مؤازرة قمعه، مما يجعل امريكا تماثل بهذين الموقفين الطيب والشرير، ما يعرف في الادب الانجليزي، بالدكتور جيكل الطبيب الطيب الذي يعالج المرضى في النهار، فإن جاء الليل تحول إلى المستر هايت الشرير الذي يتلذذ بقتل الناس بمن فيهم المرضى الذين عالجهم في النهار.

تمارس امريكا في الواقع ما هو اسوأ من الدكتور جيكل والمستر هايت لانها تقدم خيراً زائفاً وشراً واضحاً في طبق واحد للعالم طوال النهار وفي اثناء الليل، وكان اخطر هذه الاطباق ما قدمته أخيراً للفلسطينيين، وفي الوقت الذي يقدم فيه البيت الأبيض اقتراحاً باجتماع ثنائي «رأساً برأس» بين ياسر عرفات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية وبين ايهود باراك رئيس الوزارة الاسرائيلية في واشنطون لعلهما يتوصلان إلى حل يقضي على العنف الدائر بينهما، نجد الكونجرس يصدر قراراً بادانه النضال الفلسطيني ويصفه بالارهاب، ويطالب الرئيس الامريكي بل كلينتون بالتدخل لحماية اسرائيل من رجمها بالحجارة، ولم يتحدث القرار الصادر عن الكونجرس عن قتل اسرائيل للانسان الفلسطيني بمن فيهم الأطفال بالبندقية والرشاش والمدفع والصاروخ والطائرات العمودية «الهليكوبتر» بل برأها من كل هذه الجرائم لانها في حالة الدفاع عن النفس.

ليس مستغرباً هذا الموقف من رجال الكونجرس الامريكي لان كل اعضائه دُمى تحركها يد الدهلزة الصهيونية. فهم لا يمتلكون حرية القول، ويمارسون ديكتاتورية جماعية تحت مظلة قبة الديمقراطية، ويعتدون على الامم والشعوب بدس انوفهم في ما لا يعنيهم، تنفيذاً للاوامر الصادرة لهم ومع ذلك يعتقد كل واحد منهم بانه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية كما قال عنهم الرئيس الأسبق رونالد ريجان بعد ان ضاق من تدخلهم السافر في شؤون البيت الابيض على الرغم من صهيونيته التي كان يفاخر بها بالقول والفعل، ولادراكه بأن الكونجرس لا يمتلك امر نفسه طلب بصورة سرية من قيادات الدهلزه الصهيونية كبح جماح الكونجرس وحصر نشاطه داخل اختصاصاته المتعلقة بالتشريع وفق احكام الدستور التي تحدد الاختصاصات.

هتك سياج هذه الصلة السرية بين رونالد ريجان وبين الدهلزة الصهيونية الصحافة الامريكية عند تطرقها بالمناقشة للخلاف القائم بين البيت الابيض من ناحية وبين الكونجرس من ناحية اخرى وتوصلت إلى ان الخلاف بينهما لا يدور حول المبادئ وانما يتعلق بالاختصاصات.

قبل ان نترك الحديث عن الماضي اذكركم بما جاء في مذكرات الدكتور هنري كيسنجر بعد خروجه من السلطة مع رئيسه ريتشارد نيكسون المطرود من البيت الابيض، في الفصل الذي تحدث فيه عن حرب 6 اكتوبر من عام 1973م تقول كلماته في تلك المذكرات لا يمكن ان نسمح لمصر بالانتصار على اسرائيل، حتى لا يعطى السلاح السوفيتي الذي تتسلح به مصر الانتصار على السلاح الامريكي الذي تتسلح به اسرائيل. وطالب بإلحاح من الرئيس ريتشارد نيكسون مساعدة اسرائيل بتعويضها فوراً عن ما فقدته من سلاح حتى تحول هزيمتها إلى انتصار فيغلق الباب في وجه نفوذ الاتحاد السوفيتي بمنطقة الشرق الأوسط، وسارع إلى استقطاب الكونجرس إلى جانبه، الذي كان يتعاطف مع آرائه ويؤيدها، وتغلب بذلك على معارضة وزارة الدفاع التي اكدت بأن اسرائيل مدججة بالسلاح وكل ماتحتاج إليه فتح مخازن أسلحتها لتثأر من مصر التي هزمتها دون إحراج أمريكا مع العرب لمدها لإسرائيل بسلاح لا تحتاجه في وقت حربها مع مصر.

استطاع الدكتور هنري كيسنجر بدعم من الكونجرس، إلزام الرئيس ريتشارد نيكسون بإصدار قرار تزويد إسرائيل بالسلاح فوراً، واتخذت كل الترتيبات السريعة في نقل السلاح لإسرائيل بالتعقيب المكثف من قبل الدكتور هنري كيسنجر شخصياً مع وزارة الدفاع، واتصل هاتفيا مع جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية وطلب منها إرسال طائرات العال لتتولى نقل شحنات الأسلحة التي طلبتها حتى لا تحتج وزارة الدفاع بصعوبة نقله، فبادرت بإلغاء رحلة تجارية لشركة العال من واشنطون إلى تل أبيب، وشحنت جزءا من السلاح المطلوب في مساء يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973م اليوم الثاني لانتصار مصر على إسرائيل، وتكاملت مؤامرة إرسال السلاح لإسرائيل بفتح ثغرة الدفرسوار التي جعلت الانتصار المصري ناقصاً نتيجة وصول الجند الإسرائيليين إلى أرض تقع في الضفة الغربية من قناة السويس.. من يريد الاستزادة عن هذه المؤامرة الأمريكية فليرجع إلى مذكرات الدكتور هنري كيسنجر الموجودة في الأسواق.

رجوعنا إلى مواقف الكونجرس بالأمس ضد العرب، ليس للزينة، وإنما يهدف إلى إثبات أن قراره اليوم بإدانة النضال الشعبي الفلسطيني يمثل امتداداً طبيعياً للمؤامرة الامريكية الرامية إلى نصرة إسرائيل بالباطل على العرب في السلم وفي الحرب، فلما فشلت أمريكا في دعم إسرائيل بالطرق السلمية، سارعت إلى دعمها في حربها ضد الشعب الفلسطيني لتحقق بالانتصار العسكري فرض ارادتها بقوة السلاح، بعد أن تعذر عليها الوصول إلى هذه الإرادة الإسرائيلية عن طريق الحوار.

نستطيع أن نقول هنا بلا تردد، إن قرار الكونجرس الذي يؤيد إسرائيل في قتلها للشعب الفلسطيني بعد إدانة نضاله بالإرهاب، جاء ردة فعل على بيان القمة العربية في القاهرة القاضي بدعم انتفاضة القدس حتى تحرر الأرض الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يفرض الرعب على إسرائيل والقلق على أمريكا فحرص الكونجرس على إصدار قراره بإدانة النضال الشعبي الفلسطيني وتأييد العدوان الإسرائيلي ليفرض الرعب على الفلسطينيين والقلق على العرب، مما يجعل من قرار الكونجرس صياغة جديدة لحرب باردة بين فكرين متناقضين، الفكر الإسلامي الذي يستند إليه العرب، والفكر الغربي الذي ترتكز عليه إسرائيل.

واضح أن الخوف الأمريكي من خطر الاتحاد السوفيتي فرض الحرب الباردة في الماضي على المسرح الدولي، وترغب واشنطون توظيف الخوف الأمريكي من الخطر الإسلامي بفرض الحرب الباردة في الحاضر على المسرح الإقليمي للشرق الأوسط التي أعلن عنها قرار الكونجرس الذي يتصور صانعوه إمكانية تكرار انتصار امريكا على الاتحاد السوفيتي بانتصار جديد لها من خلال إسرائيل حليفتها الاستراتيجية على الفلسطينيين والعرب، وبالتالي تنال من عدوها اللدود الحالي الذي أعلنت عن عدائها له في كتاب الفرصة الأخيرة الذي كتبه الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون أو كتبته له من الباطن الاستخبارات الاتحادية الأمريكية «السي اي ايه».

الخوف من الإسلام دفع إسرائيل إلى العمل على تشكيل حكومة إيرييل شارون برئاسة إيهود باراك، والنظرة المتعمقة لتشكيل الحكومة الوطنية الإسرائيلية تجعلنا أمام موقف سياسي غريب يهدف إلى تشكيل هيئة أركان عامة عسكرية بمسمى مجلس الوزراء ليواصل قمع الشعب الفلسطيني الأعزل الثائر على الاحتلال الإسرائيلي لبلاده، وتتحدى الشعب العربي وتتطاول على المقدسات الإسلامية بمباركة من أمريكا.