ثورة 23 يوليو والمغرب

TT

تمثل ثورة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 صفحة مثيرة في التاريخ العربي المعاصر. فهي على عكس الانقلابات العسكرية التي دشنت في سوريا، أعلنت عن هوية إصلاحية ببرنامج قدم كبديل للنظام الذي تم إسقاطه، بما مثله من تخبط داخلي، وضعف أمام الخارج، وفساد سياسي واجتماعي.

وعدد الضباط الأحرار أهدافهم في ما يلي: القضاء على الاستعمار وأعوانه. القضاء على الإقطاع. القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم. إقامة جيش وطني قوي. إقامة عدالة اجتماعية. إقامة ديموقراطيا سليمة.

وخاطبت هذه المقولات التي تضمنتها ديباجة دستور 1956، الجماهير المصرية المسحوقة، وكذا الشارع العربي برمته. وتراءى كما لو أن العرب أصبحوا على أبواب إقامة نظام لهم، قوامه التحرر، وخلق نمط تنمية مستقل.

وإذا اتفقنا على تشخيص الملامح العامة للناصرية على هذا النحو، سهل علينا فهم الإقبال الكبير الذي لقيته في جيلنا تلك الظاهرة المتميزة. شيء آخر القول بأن الظاهرة الناصرية قد تبلورت في شكل مغاير. فهذا يرجع ليس إلى فشل فرد أو نظام وإنما هو فشل جيل بكامله. وكل مجتمع عربي فشل بطريقته في إنجاز التحرر والتنمية.

وقد تواجهت مصر الثورة مع الاستعمار البريطاني، ومن ثم مع الاستعمار الغربي برمته. وفي غمرة ذلك ارتبطت هذه المواجهة بنضال الشعوب العربية الواقعة تحت الاستعمار في شمال إفريقيا والخليج. وكان لتلك المواجهة صدى في البلدان العربية التي كانت تشكو من المعاهدات غير المتكافئة التي كانت تربطها بالغرب، فضلا عن الصدى في الساحة الفلسطينية. ومن خلال كل ذلك فتحت آفاق نحو ربط النضال العربي مع العالم الثالث في القارات الثلاث.

وفي ظرف سنة بعد حركة الضباط الأحرار، أسفرت مصر الثورة عن وجهها، كقائدة للكفاح العربي ضد الاستعمار، بمناسبة إقدام فرنسا على عزل محمد الخامس ونفيه مع أسرته في أغسطس 1953، وهو الحادث الذي أدخل كفاح المغرب من أجل استقلاله في مرحلة حاسمة، إذ انتقل إلى الكفاح المسلح في شكل مقاومة مسلحة بالمدن، ثم في شكل جيش التحرير.

وكانت القاهرة، مقر الجامعة العربية، وقبلة حركات التحرير في شمال أفريقيا، هي المنصة الضرورية للانتقال إلى تدويل النزاع مع فرنسا. ففي العاصمة المصرية، أنشئ مكتب المغرب العربي في فبراير 1947، لمجموع الأحزاب الوطنية في المغرب والجزائر وتونس. ثم أنشئت لجنة تحرير المغرب العربي، في ديسمبر 1947، برئاسة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي تبنى الملك فاروق مبادرة الزعماء المغاربيين بالعمل على نزوله في بور سعيد، من باخرة كانت تقله من جزيرة ريونيون إلى التراب الفرنسي. وكانت حكومة وفدية، من آخر الحكومات المدنية في مصر قبل حركة الضباط الأحرار، هي التي تبنت مبادرة الوطنيين المغاربة، بإيداع شكوى ضد فرنسا أمام الأمم المتحدة في دورة .1951 أي أن الثورة وجدت على جدول السياسة الخارجية المصرية، مناصرة الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، فواصلت هذا الاختيار. ولكن اختلف الأمر عما كان في السابق، إذ أن الأحزاب المغربية كانت تجد في المناخ الليبرالي الذي كان أيام الملكية، حرية أكبر في التواصل مباشرة مع الحركات السياسية المصرية، وكذلك مع الصحافة.

وأما بعد الثورة فقد تقلص هامش التحرك، وأصبح واجبا المرور بالقنوات الرسمية التي حددتها الثورة، وذلك على النحو الذي يرويه فتحي الديب، في كتابه «عبد الناصر وثورة الجزائر»، المنشور سنة 1984، حيث يوضح كيف أن الثورة خلقت في جهاز المخابرات شعبة خاصة بالاتصال مع الحركات الاستقلالية في شمال أفريقيا.

وارتفعت مع الأيام درجة تبني مصر الثورة لعمل هذه الحركات. ومن ذلك تطوير برنامج «صوت العرب» من إذاعة القاهرة، الذي أذيع منه «نداء القاهرة»، وهو بيان تاريخي، تم بثه في البرنامج المذكور، بعد ربع ساعة من عزل محمد الخامس، ودعا فيه زعيم التحرير علال الفاسي إلى أنه آن الأوان للدخول في مرحلة الكفاح المسلح الذي لن يتوقف إلا بعودة محمد الخامس إلى العرش، وإعلانه استقلال المغرب. وكان ذلك البرنامج الإذاعي الموجه ذا تأثير بالغ في معنويات الشعب المغربي. وأحس الاستعمار بقوة ذلك التأثير، فمارس ضغوطا على الحكومة المصرية من أجل مراجعة موقفها من تبني كفاح شعوب المغرب العربي.

وأدت مصر غاليا ثمن وقوفها المبدئي هذا إلى جانب كفاح شمال إفريقيا. وتعرضت للعدوان الثلاثي في أكتوبر 1956، والذي جاء لضرب القوة الصاعدة التي أصبحت مصر تمثلها في الشارع العربي. ولكن لم تخل علاقات حزب الاستقلال المغربي مع الثورة المصرية من تعقيدات، وذاك مرده إلى ما يلي:

أن الحزب، كما في كتاب زعيمه «النقد الذاتي» الذي نشره علال الفاسي في القاهرة سنة 1952، لم يكن يتصور أفقا لتطوره إلا كحزب سياسي يقوم بدوره وفق ما هو معمول به في النموذج الليبرالي الغربي السائد في الدول الديموقراطية. وبالتالي فإن تحريم الأحزاب في مصر الثورة، لم يكن فقط تقليصا لهامش تحرك الحزب المغربي في ظل المناخ السياسي الجديد في مصر، بل إن الحالة كانت تنبئ عن تباعد فكري أساسي، بين هوية حزب ديموقراطي، وبين التوجيه العام الذي أصبح عقيدة في نظام الثورة.

أن الثورة قامت على معاداة النظام الملكي باعتباره نظاما يمثل نموذجا للفساد، في حين أن حزب الاستقلال كان محور كفاحه هو العمل على عودة الملك الشرعي إلى العرش، وإعلان نظام ديموقراطي، وهذا كان هو برنامج الملك نفسه. فلم يقتصر الأمر على الجانب المبدئي، من حيث أن الضباط الأحرار كانوا ضد الملكية من حيث هي، والحزب كان ملكيا يرتبط بميثاق وطني يعمل في إطار الوفاء به، بل نشأت احتكاكات بين زعيم الحزب نزيل القاهرة، والمخابرات التي لم تكن تشاطره الرؤية، وهي ذات تصورات مغايرة سياسيا وبحكم طبيعة تخصصها الحرفي. وأكثر من ذلك أن الجهاز المصري اتجه في تعامله مع الحركات الوطنية في شمال أفريقيا على أساس التخلص من النظام الحزبي، وخلق «إطار ثوري» جديد وفق الرؤية المصرية للأشياء.

نشأت احتكاكات من جراء هذا وذاك، وأدى ذلك إلى حدوث امتعاض متبادل بين الزعامات المغاربية، والقنوات الوحيدة التي أصبحت متاحة للتواصل مع ذوي القرار في مصر الثورة. وكان مصدر التوتر حرص المغاربة على صيانة استقلالية قرارهم سياسيا وتنظيميا. ونشأ خلاف صاخب مع الحبيب بورقيبة، وخلاف مكتوم مع علال الفاسي. انفجر الخلاف مع بورقيبة بمناسبة قبوله الاستقلال الداخلي الذي منحه مينديس فرانس في .1954 ومالت مصر إلى تأييد رفيقه صالح بن يوسف الذي كان يعارض تلك الخطوة. وحدث شيء مماثل، وإن كان بحدة أقل مع المغرب، حينما اتجهت فرنسا إلى التفاوض على حل سياسي مع المغاربة في صيف وخريف 1955، انتهى بعودة الملك، وإعلان الاستقلال.

وحدث بعد استقلال المغرب وتونس في 2 و 19 مارس 1956، أن الكيان الوطني المستقل في البلدين ورث شيئا من تداعيات الفترة السابقة للاستقلال، في علاقات مصر الثورة مع الحركات الاستقلالية في شمال أفريقيا. وتبلورت العلاقات بعدئذ في سياق التناقضات العربية العربية، وتلك قصة أخرى.