بارناديت شيراك.. ملكة الجمهورية التي عانقت أهل «فرنسا السفلى»

TT

اعتاد الرؤساء الفرنسيون المنتمون الى اليمين المحافظ ان يبقوا زوجاتهم بعيدا عن عواصف السياسة ومتاعبها وألاعيبها ومؤامراتها، فلا يظهرن الى جانبهم إلا في المناسبة الرسمية الكبيرة. هذا ما فعله الجنرال ديغول، الذي كان يعتبر فرنسا «زوجته الاولى». وايضا جورج بومبيدو. وقد سمح فاليري جيسكار ديستان لزوجته بالتورط في عالم التجارة والمال، غير انه حرص على ألا تقترب من عالم السياسة إلا عندما يكون ذلك ضروريا ومحتما. اما بالنسبة لجاك شيراك، الذي اعاد الفرنسيون انتخابه رئيسا لهم مؤخرا، فإن الامر يختلف تماما. فهو لم يخالف فقط سابقيه من اهل اليمين المحافظ في التعامل مع زوجاتهم، وانه اراد ان يبزّ خصمه القديم الراحل فرنسوا ميتران، فأعطى لزوجته بارناديت «صلاحيات» سياسية افضل من تلك التي منحها هذا الاخير لقرينته، مدخلا اياها الى عالم السياسة من بابها الواسع والعريض.

تنتمي بارناديت، البالغة الآن من العمر 70 عاما، الى عائلة ثرية. وقد تلقت تعليمها في ارقى المعاهد والجامعات الفرنسية. وكانت طالبة في باريس لما التقت جاك شيراك، الذي كان آنذاك يدرس في المدرسة العليا للادارة، التي منها تخرج افضل الكوادر الفرنسية في مجال السياسة والاقتصاد والمال. وقد يكون ذلك الشاب المتقد حماسا ونشاطا، والذي تشبع مبكرا بأفكار اليمين الفرنسي ومبادئه، واختار منذ البداية ان يكون نصيرا للجنرال ديغول، بطل المقاومة ضد الاحتلال النازي، وجد في الشابة المؤدبة، ذات الملامح الارستقراطية والثقافة العالية ما غذى طموحه السياسي الذي كان بلا حدود. فكان الزواج زواج حب ومنفعة ايضا. وعلى مدى العقود الاربعة الماضية، ظلت بارناديت مخلصة لزوجها في الاوقات الصعبة كما في الاوقات السهلة. وبالرغم من انه تعرض لانتكاسات كثيرة، خصوصا لما رشح نفسه لرئاسة الجمهورية، فإنها ظلت شديدة الثقة والايمان به وبقدراته، وكانت تقول دائما، وهي تجوب فرنسا باحثة عن المؤيدين والانصار لزوجها: «سوف يكتشف الفرنسيون ذات يوم انهم لن يجدوا رئيسا افضل من زوجي!». وخلال الحملة الانتخابية الاخيرة التي رفعت زوجها الى كرسي الرئاسة للمرة الثانية، نشطت نشاطا حثيثا، وحرصت على ان تكون الى جانب زوجها خلال جولاته داخل فرنسا. ويوم انتصاره ظهرت معه على المنصة في ساحة «الجمهورية» متعبة، لكنها سعيدة ومبتهجة، لتحيي عشرات الآلاف من الانصار والمؤيدين ولتنتقم ايضا، من الصحافية المعروفة، فرانسوا جيرو، التي انحازت لزوجة ليونيل جوسبان وكتبت تقول بأنها ستكون فخورة وسعيدة بأن تدخل اخيرا «سيدة مثقفة» الى قصر الاليزيه. وقد ردت هي على ذلك بغضب قائلة: «هل هي تعني (تقصد فرانسوا جيرو) انني امرأة سطحية من الدرجة الثانية!».

وخلال السنوات السبع الاولى التي امضاها جاك شيراك في قصر «الاليزيه»، ظلت بارناديت مبعدة الى حد ما عن مشاغل الرئيس السياسية خصوصا، ذلك ان ابنتها كلود تمكنت من احتلال المرتبة الاولى في هذا المجال. وقد يكون ذلك عائدا الى انها تمكنت من ان تقنع والدها بأنها قادرة على ان تكون لسانه وسمعه لدى الشبيبة خاصة، ومرشدته ايضا في مجال التقنيات الحديثة والمحيط. وخلال الحملات العنيفة التي شنتها وسائل الاعلام الفرنسية على والدها، خصوصا بشأن السرقات المالية التي حصلت في الفترة التي كان فيها عمدة باريس، تمكنت كلود من الحد من حدة تلك الحملات وردت عليها بعنف قائلة: «ان الصحافيين هنا في فرنسا ليس لديهم وقت إلا لترويج واشاعة السخافات المؤذية، واغتياب الناس المخلصين والشرفاء». وعلى مدى سنوات ظلت كلود «حامية» لوالدها من الحملات الصحافية، الشيء الذي اتاح لها ان تكون عنصرا اساسيا داخل قصر «الاليزيه»، في حين ظلت والدتها في الظل ترقب بنوع من الغيرة الصعود «الصاروخي» لابنتها الكبرى.

وعندما شرع الرئيس جاك شيراك في تهيئة نفسه للانتخابات الرئاسية للمرة الثانية، قبل بنصيحة مستشاريه الذين اشاروا عليه بضرورة اشراك زوجته في كل ما يقول وما يفعل، ويبدو انهم كانوا على صواب. فقد ابدت بارناديت ذكاء سياسيا حادا اذهل الرئيس والمستشارين، ودليل ذلك انها كانت اول من تنبأ بسقوط ليونيل جوسبان، وترشح جان ماري لوبان زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

وفخورة بالثقة الجديدة التي منحها اياها زوجها، راحت بارناديت تجوب وحدها القرى والمدن الفرنسية متحدثة الى بسطاء الناس، اولئك الذين يسميهم الوزير الاول جان بيار رافاران بـ «أهل فرنسا السفلى». وخلال تلك الجولات لم تكن تخشى التحدث الى الصحافيين بهدوء وبساطة، مدافعة باستماتة عن افكار زوجها وعن توجهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومرددة طول الوقت: «على الفرنسيين ان يعلموا ان لهم الحظ بأن يكون على رأسهم رجل بمثل هذه الصفات والخصال». والى المقربين منها كانت تقول: «ان الهدف من جولاتي التي تتعبني كثيرا هو ان يكون جاك شيراك في كل مكان من فرنسا!».

وتعتبر بارناديت، هيلاري كلينتون «مثالا» لها. وهي تحب ان تقتدي بها في سلوكها وافكارها. ذلك انها المرأة التي كانت وراء الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها زوجها خلال الاعوام الثمانية التي امضاها في «البيت الابيض». كما انها كانت وراء «خلاصه» من تلك الازمة الخطيرة التي فجرتها علاقته مع مونيكا الجميلة. ولأن جاك شيراك تمكن خلال الانتخابات الرئاسية والاشتراعية الاخيرة من ان يخرج من الحلبة جميع خصومه السياسيين ومن ان يحصل على الاغلبية الساحقة داخل البرلمان، وهو شيء لم يحصل قط لسابقيه من اهل اليمين، ومن اهل اليسار، فإن الفرنسيين اصبحوا يلقبونه بـ«الملك شيراك». اما بارناديت فأصبحت تلقب بـ«الملكة». فهنيئا لها بهذا اللقب في بلد يفاخر بأنه اول من اقام النظام الجمهوري في اوروبا!