مستقبل الأكراد خارج مشرحة التقسيم والتجزئة

TT

يبدو ان السياسة الكردية العراقية هي فعلا المحور الذي يطالب ويلح اكثر من طرف على الاستفاضة في شرحه وكشف مكامنه واعادة غربلة تفاصيله، من منطلق ان الموقف الكردي يجسد النقلة الاكثر تأثيرا في لوحة الشطرنج العراقية، والبيدق الذي تراهن اكثر من جهة على ان حركته هي التي تقرر الحسم والفصل فيما يخص التغيير في العراق. الذي لا احد يدرك بعد ساعة الصفر لانطلاقته.

ولان الامر كذلك، تعمّد اكراد العراق استغلال التوقيت المناسب لبسط ابجدية سياستهم مجددا على الملأ، ففي 8/6/2002 انعقد بحضور نيجيرفان بارزاني رئيس الحكومة الاقليمية الكردية مؤتمر سياسي ـ فكري ـ اعلامي في الجامعة الامريكية في واشنطن بدعوة من مركز البارزاني للدراسات، الذي سبق ان عقد مؤتمرا نوعيا عام 2000 حول الهوية الكردية اثار في حينه ردودا مختلفة من قبل الاطراف الاقليمية.

انعقد المؤتمر بحضور ثلاثة آلاف شخصية كردية وعربية وتركية وايرانية وامريكية واوروبية، وتحت عنوان «الاكراد عنصر اساسي للاستقرار في العراق والمنطقة»، والعنوان يؤشر الى مدى الخوف المشروع لدى اكراد العراق، وهم الذين طحنتهم الحروب واعتصرتهم مرارات الكوارث الى حد ان حديث التغيير اصبح يعني لديهم، احيانا، احتمال خطف العصفورة التي في يدهم ووعدهم بالعشرة التي تعشش على الشجرة. والتي قد تطير في اية لحظة فيكون الاكراد قد خسروا ما في يدهم وما في جعبة الوعود.

بحث المؤتمر في اربعة محاور مفصلية واساسية هي القضية الكردية ضمن الملف الاقليمي، والسياسة الامريكية والاوروبية تجاه الاكراد، والقضية الكردية عراقيا من خلال منظور المعارضة العراقية، ومدى اداء الاعلام العربي لاستحقاق دعم ايجابيات التجربة الكردية في العراق وازالة غبار الشك عنها.

ووقف المؤتمر طويلا امام هواجس التقسيم التي تربط عادة بالاكراد العراقيين. فأكد الحاضرون مجددا على ان انجاز الحقوق الكردية يتم ضمن العراق الموحد الفيدرالي الديمقراطي، وان الاطراف الاقليمية، ولا سيما تركيا، ينبغي ان تطئمن الى ان الطموح الكردي لن يتجاوز هذا السقف المطلبي وان السياسة الكردية ليست ـ ولا هي بقادرة ـ في وارد ممارسة الركض على الموانع، وقد تحدث ضمن هذا المحور السفير توسدن بيركه ر مستشار الرئيس التركي الراحل تورغوت اوزال ود. شفيق غبرة الذي عرض وجهة النظر العربية. وتصدى ديفيد ماك من معهد الشرق الاوسط وتالان مايكوفسكي من لجنة العلاقات الدولية في الخارجية الامريكية لمحور السياسة الامريكية الحالية تجاه اكراد العراق وادارتهم الذاتية. وخلص الحضور الى ان عهد الكوارث والنزوح الجماعي والقتل والتدمير لا يجوز ان يعود مجددا الى كردستان العراق، واستحالة العودة الى الماضي الكارثي تستوجب توفير ضمانات دولية لاكراد العراق، سواء حصل التغيير في العراق او لم يحصل. كما اثنى المتكلمون في هذا المحور على التطور التنموي ـ الثقافي والعمراني الحاصل في الاقليم الكردي العراقي، واعلن مندوب الاتحاد الاوروبي الى المؤتمر كانت ديكيرفيلت ان الفيدرالية حل واقعي للقضية الكردية في العراق. واعادت شخصيات عراقية معارضة مثل الشريف علي بن الحسين والدكتور صلاح الشيخلي وحامد البياتي وغسان العطية الى الاذهان الطابع المرن والمتصف برغبة التصالح والتسامح للنضال التحرري الكردي في العراق الذي استطاع تجاوز العقد وتحاشي الموقف الثأري الانتقامي، رغم المحن المتواصلة التي لم تستطع التأثير في البعد الوطني العراقي لنضال الشعب الكردي ولم تعزف القيادة السياسة الكردية يوما على وتر الطلاق مع العرب، بل بالعكس فان الاكراد منهمكون، وخاصة بعد انبثاق ادارتهم الاقليمية، في بناء جسور التواصل السياسي والثقافي مع المحيط العربي، رغم كل الآراء والافكار البعيدة عن الواقع والغارقة في الاوهام التي تطلق احيانا كثيرة من حناجر اعلامية عربية عديدة تجاه حقيقة التجربة الكردية في العراق. والواقع ان الاعلاميين العرب المساهمين في هذا المؤتمر اعترفوا بالثغرات الموجودة في هذا المفصل واهمية ردمها والانطلاق لبناء رأي عام عربي قائم على معايشة الواقع والمعطيات، وتفحص الحقائق على الارض في كردستان، وتسليط الاضواء الكاشفة عليها، عوضا عن الارتكاز على قوالب جاهزة ونظرة نمطية مشوّهة عن حقيقة ما يجري في تلك المنطقة التي ظلت على مدى عقود تتصدر نشرات الاخبار كعنوان للكوارث، ولكنها استطاعت، منذ عقد من الزمن، ان تغادر الانقاض والحرائق وتبني مجددا على ارض دمّرت فيها 4000 قرية من اصل نحو 6800 هي مجموع المناطق المأهولة.

المؤتمر كان عنوانا مرجعيا وغنياً وضع النقاط المضيئة على حروف وطلاسم السياسة الكردية العراقية، بكلمة رئيس الحكومة الاقليمية الكردية نيجيرفان بارزاني التي حددت ملامح التطور الحاصل في اقليم كردستان العراق على كافة الاصعدة، حيث «ان التجربة الكردية ورغم العوائق التي وقفت في طريقها انجزت بشهادة مراقبين دوليين خطوات فعالة الى الامام وبرهنت انها حلقة مفصلة لصيانة وتحصين السلام والامن والتنمية في المنطقة وليست ابدا عامل فوضى»، كما قال.

هل اجاب المؤتمر عن كل الاسئلة التي اثيرت وما زالت تثار حول اتجاه البوصلة الكردية؟ نعتقد ذلك، ولكن يبقى ان سياسة بعض الاطراف تجاه «الحالة الكردية» ليست قائمة على رؤية الحقيقة، بل على التشويه وخلط الاوراق، وهذا ما يضاعف الخوف المشروع لدى اكراد العراق ويجبرهم على التشبث بمنطق المثل الشهير «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة».

ان الكرة الآن في ملعب الاطراف الاقليمية وبعض الاطراف العراقية المعارضة لتعزيز الثقة بالتوجه الكردي وطمأنة الاكراد على ان «حلالهم» سيبقى في يدهم في ظل التغيير الذي يجب ان يكون ديمقراطيا، والا فمن العبث دفع الاكراد الى شفا هاوية من النار دون ضمانات لاطفاء الحريق اذا ما شبّ في جسدهم، وهم الذين غبنهم التاريخ مرارا وادخلتهم الجغرافيا مشرحة التقسيم والتجزئة وغيّبتهم عن الخارطة السياسية للعالم.

* كاتب من كردستان