خواطر 23 يوليو (5) العبور إلى كل مكان

TT

حاول أنور السادات ان يأخذ شيئاً من سحر التواريخ، الى جمهوريته. وقد كان في هذه الجمهورية تاريخان اساسيان: 6 اكتوبر، اليوم الذي قاد فيه اول انتصارات مصر منذ هزيمة 1967، و15 مايو، اليوم الذي خلع فيه علي صبري و«المتآمرين عليَّ منذ اللحظة الأولى». اي القوى التي لم ترد له ان يخلف جمال عبد الناصر برغم انه كان «نائب الرئيس الوحيد، بعدما حدث ما حدث لبقية الرفاق»، او بالأحرى بقية «الاخوة». فهو منذ تسلم الرئاسة لم ينفك يفكك كل ما اتصل الى مصر من الشيوعية السوفياتية. وسوف يشرح في مذكراته لمجلة «اكتوبر» التي قطعها اغتياله، ان الرئيس السوري الراحل صلاح جديد هو الذي الغى جميع الألقاب وفرض لقباً واحداً هو «الرفيق» ارضاء «لاصدقائه السوفيات».

والسوفيات لن يكونوا اصدقاء انور السادات ولا حلفاءه. انه يستغلظ دم نيكولاي بودغورني (رئيس المجلس الأعلى)، وله تجارب سيئة وكثيرة مع نيكيتا خروشوف ولسانه السليط. وهو معجب بالمارشال تيتو لأنه الوحيد الذي عرف كيف يتخلص مبكرا من السطوة السوفياتية. ولا يكف خلف عبد الناصر عن التلميح الى ان السوفيات خذلوا مصر في السلاح، وكذبوا عليها، وحرضوها باشاعات كاذبة، وكانوا هم من ورطها في حرب 1967.

كان السادات، طوال 18 عاما، رجلا في ظل عبد الناصر. هو الوحيد الذي لم يغضبه، وبالتالي حافظ على موقعه. ويقر بأن هذه الاستمرارية جعلت الآخرين يقولون انه بلا شخصية وبلا رأي، لكنه ينفي ان يكون هذا هو الواقع. ويفهم من كتابات السادات وذكرياته، ان عبد الناصر كان كل شيء في حركة الضباط الأحرار التي اصبح زعيما عليها منذ 1942، لكن هذا لا يمنع انه يريد جمهوريته. يريد «مصره» هو. فقد كان الاميركيون يقولون (تقرير دالس الذي اطلعه عليه عبد الناصر) انه رجل السوفيات الأول. وكان السوفيات يقولون انه عميل اميركا الأول. وهذا دليل عمالته الحقيقية: «في خدمة مصر ولا شيء سوى مصر».

حلم عبد الناصر بالعالم العربي وافريقيا، لكنه رأى السودان اول من ينزلق من يديه ومن وحدة «وادي النيل». ثم رأى سوريا تعود مجرد اقليم شمالي يحكمه الانفصاليون. ثم رأى اليمن يتحول الى سبحة من الشوك بين يديه. ولذلك سوف يعيد هو، انور السادات، مصر الى مصر. وسوف يذهب بطل 6 اكتوبر الى القدس ثم كامب ديفيد، معلنا انه لم يعد في مقدور مصر ان تتحمل المزيد من الحروب. ورأى ان «99% من الأوراق في يد امريكا» فنادى على «العزيز هنري» وقال له: «هات امريكا معاك وتعال!».

كان القروي ابن «ميت الكوم»، التي اراد ان يرسل اليها عائلته «للأمان» خلال حرب 1967، كان مبتهجا بنفسه، يغمره فرح هائل، بأن مسيرته حملته الى ان يصبح رئيسا على مصر. ولذلك سوف يقول لشاه ايران عندما يلتقيه: «كلانا تخرج من الكلية الحربية في دورة 1938. لكن انت ابن شاه وانا ابن فلاح. وانت اليوم تحكم اكبر دولة شيعية في الشرق الأوسط وانا احكم اكبر دولة سنية». وكان السادات فرحا بما قد عبر، في الحياة وفي السجون وفي الجيش وفي الصحافة وفي نيابة الرئاسة وأخيرا في القتال، العبور الكبير والعبور الأخير.

عندما ذهب انور السادات الى القدس كنا نعمل في مجلة «المستقبل» في باريس. وقد اذهلنا الحدث كما اذهل كل عربي. وجلسنا نتشاور في عنوان للغلاف. وطُرحت في اجتماع التحرير افكار كثيرة.

وأخيرا قلت للزميل نبيل خوري، شفاه الله، لماذا لا يكون العنوان من كلمة واحدة: «العابر». فالعبور هنا له اكثر من مغزى، واكثر من معنى، واكثر من ايقاع، وليفسره كل مفسر كما يشاء.

والى اللقاء