ماذا في الصندوق!

TT

عندما انتقل تشارلز داروين وزوجته ايما مع اول اولادهما العشرة في عام 1842 للعيش والسكنى في منزل يبعد عشرة اميال عن لندن، لم يكن سعيدا بمنزله الذي لا يبدو جديدا ولا قديما وكان يبعث على الاكتئاب، الامر الذي جعله يمشي معظم اوقاته وسط المساحات الشاسعة الخضراء والحدائق وفي احضان الطبيعة العذراء التي الهمته الكثير من افكاره ونظرياته العلمية.. وعلى حد قول بيريد بيرس احدى حفيدات داروين في مذكراتها ان جدها كان ينتمي الى ذلك المكان المنعزل ويبتعد به عن المجتمع البشري وعن مشاكل وهموم العصر الفيكتوري.. وهو المكان الذي ساعده على تنظيم افكاره وعلى تأليف كتابه «اصل الانواع» في عام 1859 الذي وضع فيه نظرية التطور التي ما زالت مثار نقاش.

في كتابها «صندوق آن» الذي صدر مؤخرا عن دار النشر البريطانية «فورث ايستيت» ارادت راندال كيني التأكيد على حقيقة هامة وهي ارتباط افكار داروين العلمية بحياته الخاصة، وهو الارتباط الذي يتضح جليا في وفاة ابنة داروين الحبيبة «آن» وهي في العاشرة من عمرها والتي كان لها التأثير الاكبر على تفكيره العلمي.

كان تشارلز داروين وزوجته ايما حريصين على توفير سبل الراحة والصحة الجيدة لعائلتهما في منزلهما المنعزل، وعندما كانت ابنتهما، آن، في التاسعة من عمرها كانت تتجول هي وابناء عمومتها بحرية كبيرة بعيدا عن القيود التي فرضها العصر الفيكتوري على الاطفال.. لكن بدأ الضعف يدب فجأة في جسد آن نتيجة اصابتها بالمرض المزمن نفسه المصاب به والدها تشارلز داروين، لذلك عندما لم تستطع آن مقاومة المرض وماتت شعر داروين بالذنب لانه ورثها المرض وظلت فكرة أن يرث الابناء المرض من الآباء مستحوذة على فكره طويلا.

تظهر براعة الكتاب ومؤلفته في التركيز دائما عبر فصوله المختلفة على ان نظريات داروين العلمية لم تكن نتاج افكار علمية مجردة بل كانت استلهاما لتجاربه وخبرته وآلامه، وعلى ان الفشل الذي مني به داروين في ان يجد سلام العقل وان يبعد تفكيره فيما حل بابنته وما ورثه اياها من مرض قد دفعه دفعا الى الاعتقاد بمبدأ الانتخاب الطبيعي وبنظرية النشوء التي تعني نشوء انواع جديدة تحتل آفاقا جديدة في الوجود لا ينازعها فيه منازع وتكيف تركيبها بدرجة فائقة من الجودة لتلائم الحياة في البيئة التي تناسبها من البيئات الثلاث البحر والارض والسماء.

كذلك يشير كتاب «صندوق آن» الى ان إيمان داروين بقوانين الطبيعة قد خفف كثيرا من حزنه والمه على وفاة ابنته. و«صندوق آن» الذي اتخذت منه المؤلفة عنوانا للكتاب هو الصندوق الذي يحتوي على بعض متعلقات خاصة بالطفلة آن وبحياتها القصيرة جمعتها الام ايما التي وجدت فيها هي وداروين شيئا من العزاء والسلوان، وهو صندوق التذكارات الذي يدل على ان داروين العالم لم يكن صاحب عقل علمي فقط بل كان يحمل في صدره قلب شاعر يخفق بأحاسيس نادرة من الرقة والرحمة.