أخطار الحوار بين الحضارات

TT

الحركة المتسارعة للأحداث تفرض علينا ان نلقي نظرة الى الخلف، تماما كما يلقي سائق السيارة نظرة سريعة على المرآة العاكسة التي وضعت في متناول بصره عمدا لينظر الى الوراء بين الحين والآخر.

وكنت تحدثت عن آمال التكامل العربي الاوروبي في اطار الحديث عن دور الجالية العربية في المهجر، وأتناول اليوم امرا قد يبدو متناقضا مع كل ما دعوت اليه، او تراجعا عما ناديت به، ولكنها ضريبة امانة الكلمة واحترام المنبر والقارئ على حد سواء.

فقد كانت تشكيلة الحكومة الفرنسية الاخيرة «دوشاً» بارداً اعادني الى الاحباط الذي عشناه هنا في منتصف السبعينات.

آنذاك كان رواد عدم الانحياز قد طوروا الحركة واستكملوا بعدها السياسي ببعد اقتصادي، وذلك في قمة الجزائر في سبتمبر (ايلول) 1973 التي تألق فيها الرئيس الجزائري هواري بومدين والعاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز، وآخر العمالقة في العالم الرئيس الكوبي كاسترو، وآخر قادة باندونغ الأحياء الرئيس اليوغوسلافي تيتو.

واخذت منظمة الدول المصدرة للنفط تحتل مكانة مرموقة تزايدت بعد دور النفط في حرب اكتوبر (تشرين الاول)، بحيث بدأت بلدان تمتلك ثروات معينة تفكر في تكوين منظمات مشابهة تكون كلها، الى جانب الاوبك، العمود الفقري الاقتصادي لعدم الانحياز.

وربما كان هذا وراء انقلاب بينوشيه للتخلص من نظام اليندي في التشيلي.

وكما سبق ان قلت، بدأت تختمر في ذهن بومدين فكرة تكوين تجمع يربط بين اوروبا الغربية ودول العالم الثالث، وبالطبع فان طرفي واحد من اهم الجسور بين الشمال والجنوب كانا الجزائر وفرنسا التي كانت قد ابتعدت بفضل دوغول، عن الحلف الاطلسي.

لكن الماضي الاليم كان يتحكم في الحاضر على جانبي المتوسط، وكان لا بد من مصالحة تاريخية تساهم في صنع المستقبل العالمي بقيام كتلة جديدة تتحمل مسؤولياتها في مواجهة الحرب الباردة وعمليات الاستقطاب ولي الذراع بين واشنطن وموسكو.

وربما كانت قدوة صانع القرار الجزائري هي المصالحة الفرنسية ـ الالمانية، التي طوت سجل الصفحات الدامية، ووضعت القاعدة الصلبة لوحدة القارة الاوروبية.

في هذا الجو كانت دعوة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان لزيارة الجزائر، وكانت تعليمات بومدين واضحة في ان توفر لها كل اسباب النجاح لكي يمكن تحقيق الهدف الاستراتيجي البعيد الذي يتجاوز مجرد تدعيم العلاقات بين البلدين.

وكنت، والزملاء المكلفون باعداد الزيارة، مسكونين بهاجس النجاح وبتفادي اي عثرات تسيء الى التنظيم، وهكذا ألغينا واحدا من مظاهر الزيارات الرسمية وهو توزيع اعلام ورقية للبلدين على الاطفال الذين يحتشدون عادة على جانبي طريق الموكب.

وبدلا من ذلك وزعنا اعلاما ملونة لا ترمز لبلد بعينه، حتى لا نفاجأ بمن يلوح بالعلم الفرنسي بشكل يسيء الى الضيف.

وكانت هناك عدة رسائل موجهة الى الضيوف، كان من بينها ان السيارة التي خصصت للرئيس الفرنسي لم تكن سيارة فرنسية الصنع بل كانت سيارة المانية، ليكون واضحا اننا نرفض الاحتكار.

وقرر الرئيس الجزائري مرافقة ضيفه خلال تحركاته، ليضمن، بهيبته، عدم ارتفاع هتافات معادية للرئيس الفرنسي، وسيكون هذا وراء نجاح زيارة مدينة «سكيكدة» التاريخية التي عرفت مذابح اوت/آب 1955.

والواقع ان ذلك القرار كان اكثر من ضرورة بعد الخطأ الذي ارتكبه جيسكار اثر نزوله من الطائرة واستماعه، رفقة مضيفه، للسلام الوطني الفرنسي، «لا مارسييز»، الذي عزف في الجزائر رسميا للمرة الاولى منذ استرجاع الاستقلال، ولم يتضح آنذاك ما اذا كان الخطأ تصرفا سياسيا مقصودا او هفوة بلاغية غير متعمدة.

فقد اصيب الجزائريون بصدمة كبيرة وهم يسمعون الرئيس الفرنسي يقول، بتقعره اللغوي المعروف: «فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة»، وهو ما يمكن ان يعني ان الجزائر ولدت في 1962 ويلغي تاريخها القديم منذ ما قبل الميلاد، ومرورا بالممالك الاسلامية والدول التي عرفتها حتى 1830.

وتأكد في ما بعد ان هناك خلفيات تتحكم في التصرفات الفرنسية، ومن بينها تصرف كاد يقلب كل الترتيبات رأسا على عقب، وذلك في المأدبة التي اقامها الرئيس الفرنسي في مقر اقامته الرسمية ردا على العشاء الرسمي الذي اقامه الرئيس الجزائري تكريما له.

يومها دخلت الى قاعة المأدبة مع عدد من المستشارين بالرئاسة آنذاك، اذكر منهم اسماعيل حمداني (رئيس الحكومة الجزائرية في ما بعد) ومحمد حاج يعلا (وزير التجارة ثم المالية ثم الداخلية في ما بعد)، وفوجئنا بأن البروتوكول الفرنسي وضعنا في مؤخرة الصفوف، واختار للموائد الشرفية عددا من الجزائريين المتعاملين مع السفارة الفرنسية او مزدوجي الجنسية منهم او المتزوجين بفرنسيات.

وقررنا الانسحاب من العشاء والقاء بطاقات الدعوة في وجه البروتوكول الغبي، لكن مدير التشريفات الجزائرية آنذاك، المرحوم عبد المجيد اعلاهم، بذل كل جهوده لاقناعنا بالتراجع عن قرارنا مراعاة لواجبات الضيافة.

ووصلت الى اليقين يومها بأن الفرنسيين لا يفهمون المصالحة كما نفهمها، ففي الوقت الذي كنا نريدها كمصالحة فرنسا دوغول مع المانيا اديناور، كانوا يريدونها كمصالحة المانيا هتلر مع فرنسا بيتان.

استرجعت كل هذا وانا اراجع تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة، التي كان من المفروض ان تكون مكافأة للجالية العربية على وقوفها بجانب الرئيس شيراك، باختيار عدد من رموز الجالية من ذوي الاصول المختلفة للمشاركة فيها.

بدلا من ذلك عينت سيدة من اصل جزائري في وظيفة ثانوية، وأخطر من ذلك كلف واحد من ضباط «الحركي» الجزائريين بمسؤولية قدماء المحاربين، في اشارة واضحة لطي ملف الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والتركيز على حرب الجزائر وتكريم الذين التفوا فيها حول العلم الفرنسي.

والقرار، للأمانة، قرار سيادي، وكان يمكن ان يمر ببساطة لو اختير واحد من الضباط الفرنسيين، ولكن تعيين من تعتبره الجزائر خائنا بكل المقاييس كان استفزازا يفتقد الذكاء، ويؤكد ان عقدة الثورة الجزائرية ما زالت تتحكم في العقلية الفرنسية، التي تريد ان تثبت للجميع بأن من وقفوا ضدها كانوا على ضلال مبين.

ولقد كان الشخص المذكور من بين من كلفوا في 1957 باصطياد المجاهدين الجزائريين، الذين كانوا يحاولون اختراق خط موريس الجهنمي المشهور، وحصدت فرقته المئات من الشهداء، وحرص دائما على تمجيد الاستعمار الفرنسي والتباهي بولائه لفرنسا.

وحتى نلغي تماما احتمال حسن النية، اذكر ان الفرنسيين ارسلوا نفس الشخص في العام الماضي ضمن اطار وفد فرنسي اقتصادي زار الجزائر، وقامت منظمة المجاهدين آنذاك بحركة احتجاجية قوية اضطرت «الحركي» الى قطع زيارته والعودة الى باريس، وكانت تلك رسالة ضمنية واضحة، استكملها الرئيس الجزائري اخيرا خلال زيارته لفرنسا برفض اصدار ما يمكن ان يعتبر صك براءة لمن خانوا بلادهم وبدون ان يحمل ابناءهم مسؤولية جرائم الآباء.

ويتأكد اليوم ان الخلفية الحقيقية هي اعطاء المتعاونين السابقين مع الاستعمار وضعية اليد العليا على جزائريي المهجر، وهم اكبر الجاليات العربية عددا.

واذكر ان وزارة الداخلية هناك تسيطر سيطرة كاملة على التجمعات الاسلامية، نتيجة للتناقضات التي ميزت تصرفات بعض الدول العربية في تعاملها مع الجالية، عبر محاولات الاستقطاب الساذجة التي يقف وراءها الفكر المخابراتي او الاطماع السياسية.

ويجب ان نتذكر هنا ايضا تعامل السلطات الفرنسية الانتقائي مع شرائح الجالية، والذي سأعود اليه عند استكمال الحديث عن الجالية الجزائرية في المهجر.

ومعنى هذا باختصار ان جالياتنا غير مؤهلة للقيام بأي دور فعال كامتداد للأمة.

واذا كنت اقول ان التكامل مع اوروبا ضرورة حيوية لمواجهة وضعية القطب الدولي الواحد وللحفاظ على مصالحنا المشروعة، فان علينا ان ندرك أننا اقلية ليس لها نصير في الغابة العالمية، ولعل التضامن الاوروبي المطلق مع اسبانيا ضد المغرب الشقيق دليل جديد على ان الشمال يظل شمالا والجنوب يظل جنوبا.

وهكذا يتأكد مرة اخرى أن الدور الوطني المتميز للجالية العربية في المهجر يمر عبر التضامن العربي الاسلامي بمعناه الواسع، والذي ينطلق من ان قوة كل بلد عربي هي قوة للبلد العربي الآخر.