تيار الإصلاح وعقباته

TT

الفترة ما بين سنة 1946 وسنة 1952 في مصر كانت حافلة بالأفكار الجديدة، وكان من السهل التمييز بين التيارين الاساسيين، المحافظ والحداثي، وتحت كل تيار منهما تندرج عدة حركات، سواء على المستوى السياسي أو الثقافي، على أن التيار الذي اكتسب شعبية واسعة، خاصة في البدايات الأولى للخمسينات، هو التيار الاصلاحي الذي كان يهدف الى توسيع الديمقراطية والاهتمام بالمؤسسات المدنية وتدخل الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية. وهو تيار ظل قائما في المجتمع المصري منذ رفاعة الطهطاوي حتى طه حسين، ينجح أحيانا ويفشل أحيانا أخرى، وربما كان التاريخ المصري الحديث هو قصة محاولة التحديث، بمعناه الديمقراطي وببعده الاجتماعي، الوصول الى السلطة وتغيير الاوضاع القائمة وفشل هذه المحاولات لظروف محلية وخارجية في نفس الوقت، ذلك ان مصر صارت موقعا استراتيجيا في السياسة الدولية منذ حملة بونابرت على مصر في سنة 1798 حتى الاحتلال البريطاني في سنة 1882، كما كانت دوافع الخروج من إطار نظم العصور الوسطى متوافرة دائما، وكان الكثير منها يرجع الى الاوضاع الاقتصادية وفرص التوسع في نقل النظام الاقتصادي من الاوضاع الاقطاعية الى بواكير النظم الرأسمالية، وهو الأمر الذي ادركه الشيخ محمد عبده واعتبر نظام محمد علي نكسة لهذا التحول، حيث فرض هيمنة كاملة على النظام الاقتصادي واحتكر أغلب النشاط الاقتصادي، وبالتالي قمع التحول الطبيعي الذي كان يتجه إليه التطور في مصر على حد تصوره.

والتحول الاقتصادي يعكس نفسه أيضا على المنظومة الفكرية السائدة، وهو ما لاحظه دارس اميركي معاصر لنا هو بيتر جران في كتابه عن تطور الرأسمالية في مصر قبيل الحملة الفرنسية ومحمد علي بعد ذلك، إذ بدأت دراسة «الحديث» في الجامعة الازهرية تتجه نحو اكتشاف العناصر الليبرالية الكامنة في مجموعة الحديث النبوي الشريف التي تحض على الحريات بشكل عام، وعلى حرية التجارة بصفة خاصة، وسيادة القانون لحل المنازعات، وفي مرحلة من المراحل اصبح للقيادات المصرية، سواء في ذلك فلول المماليك أو مشاركوهم من التجار وأهل الحرف والمثقفين من المصريين، القدرة على إقالة الوالي التركي وكان الأمر لايحتاج لأكثر من ذهاب وفد من هؤلاء الى الوالي وسحب البساط من تحته ـ رمزا لانتهاء مدته واقالته ـ لكي ينسحب الوالي ويعين «الباب العالي» واليا جديدا.

ولكن هذا «التحول» الطبيعي توقف بسبب تدخل خارجي في شكل قوة عسكرية كان يمثلها محمد علي وسلطة الباب العالي من ورائه، وقد استطاع هذا الوالي ان يدرك اتجاهات التطور في المجتمع، وأقام صلات وثيقة مع قيادات المجتمع المصري من المثقفين ورجال المال خلال اقامته التي امتدت من سنة 1801 الى سنة 1805، وبالفعل تضامن معه السيد عمر مكرم الذي كان يشكل القوى المالية الصاعدة الى جانب الشيخ حسن العطار الذي كان في طليعة المفكرين الحداثيين، والأكثر اهتماما بالعلوم التطبيقية في الفيزياء والكيمياء والرياضيات الى جانب التجديد الفكري في مجال «الحديث» والتفسير، ونظم الاصلاح بشكل عام، وبفضل مساعدة هؤلاء وزملائهم استطاع محمد علي ان يصل الى حكم مصر عن طريق اقناع «الباب العالي» بتعيينه واليا، وبدلا من ان يمضي في طريق الاصلاح الليبرالي انفرد بالسلطة وأبعد كل من أيده واتفق معه من قبل، وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، وكان احتفاظه بالشيخ حسن العطار أمرا ضروريا إذ كان هو «الممثل» المؤثر في الرأي العام الأزهري، أو قل الاتجاه السائد للمثقفين، على ان الشيخ حسن لم يكن له دور أو سلطة فعلية لإحداث التغييرات في المؤسسة التعليمية أو المؤسسة القضائية، إذ سرعان ما ترك محمد علي الجامعة الازهرية يديرها له الشيخ العطار وراح ينشئ المدارس العليا الحديثة بواسطة اصدقائه الفرنسيين وكان أغلبهم إما من عناصر حركة السان سيمونيين أو المتأثرين بهم، وكان لمحمد علي هدفه الخاص وهو الاستيلاء على السلطة في الدولة العثمانية، وكان من الواضح له تدهور أحوال هذه السلطة، وانه يستطيع عن طريق مصر أن يؤسس دولة قوية بديلا عن رجل أوروبا الذي بدأت علامات المرض تظهر على جسده، حتى في هذه الايام الباكرة، ونحن على أية حال ـ في عصرنا هذا ـ مطالبون بدراسة هذه الفترة في تفصيلاتها، ومراجعة ملاحظة الشيخ محمد عبده والدراسات اللاحقة له والتي تخالف الآراء الشائعة عن «النهضة» التي أحدثها محمد علي في مصر، على ان تيار «الحداثة» هذا الذي انتكس في فترة محمد علي، كان ينفس عن نفسه ثقافيا في الكثير من المجالات، وكان محمد علي نفسه يحتاج لتحديث بعض اركان المجتمع المصري طلبا للقوة والقدرة على التأثير في السياسات الدولية بهدف الوصول الى قيادة الامبراطورية العثمانية.

وبعد هزيمة محمد علي وتوقيعه على معاهدة 1848 انتهت حركة التحديث وقمعت حركة التصنيع وما صاحبها من نشاطات في الواقع الاجتماعي، وليس هناك من تفسير لانكسار الحركة التحديثية التي قام بها محمد علي بهذه السرعة، إلا انها لم تضرب جذورها في المجتمع المصري، وانها لم تحدث من أجل هذا المجتمع وتطويره، بل من أجل اعداد قوة ضاربة يستخدمها هذا الوالي في تحقيق سياسته التي لم تضع في اعتبارها اصلاح أحوال المصريين والعمل على اسعادهم.

وسوف نجد بعد ذلك ان حركات الاصلاح لا تكاد تبدأ حتى تصادفها عقبات داخلية أو خارجية، وهنا يلعب التدخل الخارجي دورا بالغ التأثير بحيث يبدو ان سوء حظ تاريخي لازم مصر في محاولتها للنهضة بسبب الظروف الدولية علي عكس الظروف التي سمحت للمجتمع الياباني ان يمضي في نهضته قدما دون عقبات كبرى من المجتمع الدولي مثلما حدث في مصر.

وظلت مصر ـ بعد هزيمة الجيوش العرابية أمام الجيوش البريطانية المتطورة ـ تتدهور وتخضع للارادة البريطانية التي انهت الحركة الصناعية تماما وحولتها الى مزرعة للقطن ومعبرا لسفنها وأساطيلها، ونظاما تعليميا لايخرج إلا موظفي المكاتب الصغار حتى قامت ثورة 1919 التي كانت انبعاثا للتيار «الحداثي» الكامن والمخنوق، على ان الثورة نجحت في ان تجعل «الشعب» مشاركا للسلطتين القائمتين: سلطة الاحتلال وسلطة القصر، واستخدم الاحتلال وسائله للتلاعب بالسلطتين: القصر، والشعب، وهكذا ظلت حركة الاصلاح تعاني من الانتكاس بين وقت وآخر، وحين انتهت الحرب العالمية الثانية كان من الواضح ان الرأي العام المصري قد حشد قواه واصبحت قضية الاستقلال والاصلاح الاجتماعي ببعديه السياسي والاقتصادي هدفا تصعب مقاومته، وفي أواخر الاربعينات كانت الثقافة السائدة في الشارع المصري هي مزيج من الفكر الليبرالي والاشتراكي، وكان حزب الوفد الذي فجر ثورة 1919 هو الحزب الاقرب الى تقبل اتجاهات هذا التيار، وكان شباب الحزب وخاصة الطليعة الوفدية، قد استطاعوا التأثير في توجهات القيادة الوفدية الممثلة في شخصية مصطفى النحاس الزعيم ذي الكاريزما الشعبية، والذي كان من خصائصه البارزة قدرته على التجاوب مع المطالب الشعبية.

وكانت صحف الوفد ومجلاته تعبر عن افكار هذا التيار الاصلاحي الذي انفجر بقوة في كل المجالات وكان الكثير من الكتاب البارزين يشايعون هذا التيار، وكان طه حسين قريبا جدا منه، وبالفعل بدا ان «الوفد» مقبل على احداث تغييرات أساسية في النظام الاجتماعي، وصار من الواضح ان النظام القائم عاجز عن تطوير نفسه والتجاوب مع تيار الاصلاح الذي كانت شعبيته كاسحة تقريبا، واذكر بهذه المناسبة ان أحد وزراء حزب الوفد في ذلك الوقت الدكتور حامد زكي قد عبر عن هلعه حين قال: «هذا شعب احمر يحيط بحكومة بيضاء» وكان يعني ان حكومة الوفد ذات توجهات محافظة أو معتدلة بينما الشارع المصري تسوده روح ثورية اقرب الى المفاهيم الشيوعية، وكان في هذا القول الشيء الكثير من المبالغة وكانت الاتجاهات الاصلاحية تحارب بوصمها بالشيوعية لتخويف القوى الاجتماعية المختلفة منها، ولست اذكر بدقة ما اذا كان هذا الوزير قد ترك الوزارة بعد ذلك أم لا، على ان حزب الوفد سارع بتقرير مجانية التعليم في كل مراحله حتى المرحلة الثانوية كما اعلن إلغاء معاهدة سنة 1936 وسمح للمنظمات الشعبية المقاومة للاحتلال بان تقوم بنوع من حرب العصابات ضد القواعد العسكرية البريطانية في مصر، بل وقام الوزير عبدالفتاح حسن بتوفير مجال لعمل جموع العمال المصريين الذين قاطعوا العمل في معسكرات الجيش البريطاني، وصار من الواضح ان قيادات حزب الوفد تتجاوب بسرعة مع حركة الشارع المصري المعبرة تماما عن ذلك التيار الاصلاحي الكامن في الثقافة المصرية منذ قبيل الحملة الفرنسية حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية.

هنا لم يكن حريق القاهرة في يناير سنة 1952 إلا محاولة قمعية أخرى مثل المحاولات السابقة في عهد محمد علي ووريثه الرجعي عباس الاول حتى اخفاق الثورة العرابية وتصدي الجيش البريطاني لها، الى ثورة 1919 ومحاولة احتوائها بدستور 1923 وتصريحات 1922 البريطانية باستقلال مصر بشروط اربعة، الى آخر القصة الطويلة التي تسجل مد وجزر تيار الاصلاح حتى المد الكبير الذي حدث في عهد وزارة حزب الوفد وبلغ الذروة في سنة 1951 مخترقا عام 1952 الجديد.

وعقب حريق القاهرة فقدت حكومة الوفد قدرتها على التصرف وصار الطريق مفتوحا أمام حكم مضاد لتيار الاصلاح أو ثورة عارمة، وهنا قام انقلاب الجيش في 23 يوليو سنة 1952، فهل كان هذا الانقلاب وسيلة أخرى لمقاومة تيار الاصلاح الديمقراطي الاجتماعي؟

اعتقد ان هذا سؤال جوهري، وعندما يكون المجتمع قويا وصحيحا عقليا ونفسيا، يجد لديه القدرة على النظر الموضوعي في شؤون حياته، خاصة ما يمس مصيره منها، وليس مفهوما ان نحتفل بمرور خمسين عاما على ثورة يوليو دون ان نتعرض لمناقشتها مناقشة موضوعية.

فهل نجحت الثورة في تحقيق التنمية الاجتماعية، وفي اقامة مجتمع ديمقراطي تقوم فيه الحكومات عن طريق انتخابات صحيحة غير مزيفة، وهل حرية الرأي فيه مكفولة، وهل القانون والقضاء هما المحك في فض المنازعات، وهل خرج المجتمع المصري من خناق الهيمنة الاجنبية، وما الذي فعله بالنسبة للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين؟

واذا كانت الاجابة بالنفي على الكثير من هذه الاسئلة فكيف يمكن الاصلاح؟ على انه وقبل كل شيء، هل من الممكن النظر الى ثورة 1952 بشكل نقدي موضوعي طلبا للاصلاح وتحسين أوضاع الشعب المصري، ودراسة الجوانب الايجابية والاسباب التي أدت الى الفشل في هذا الجانب أو لا؟

اعتقد انه بدون ذلك تصبح الاحتفالات عبثاً من العبث.