قفزة غامضة في طريق السلام للسودان!

TT

شهدت العاصمة الكينية في اللحظات الاخيرة لانتهاء مفاوضات السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية التي تواصلت لمدى خمسة اسابيع، تطورا مهما يعتبر قفزة كبيرة على طريق السلام بعد ان كان التشاؤم سيد الموقف الى ما قبل سويعات من انتهاء اجل المفاوضات، وجاء هذا التطور المفاجئ نتيجة للضغط الامريكي الذي مورس على الطرفين واسفر عن ما اطلق عليه اتفاق اطار عالج اهم معضلتين هما: علاقة الدين بالدولة، وضمان حق تقرير المصير للجنوبيين، على ان تستأنف المفاوضات منتصف الشهر القادم لاستكمال الصورة التفصيلية بما في ذلك قسمة السلطة والثروة وغيرهما من قضايا لا خلاف عليها من حيث المبدأ، وللاتفاق على الآليات المفضية لوقف اطلاق النار ومراقبته وما يستلزم من ضمانات دولية واقليمية للتأكد من التطبيق الفعلي للاتفاق.

واذا جاز لنا ان نبدأ بالملاحظات على ما تم الاتفاق عليه فيمكننا القول: انه اعتبر الحكومة ممثلة لكل اهل الشمال، والحركة الشعبية ممثلة لكل اهل الجنوب، وفي هذا تغييب لقوى اخرى خاصة في الشمال، وبالتالي فاذا تواصل هذا التغييب في المراحل اللاحقة فقد يكون الاتفاق مجرد صفقة بين الحكومة التي تمثل جناحا من الجبهة الاسلامية والحركة الشعبية التي تمثل القوة العسكرية الضاربة في الجنوب، كذلك فإن هذا الاتفاق تجاوز المبادرة المصرية ـ الليبية ولم يأخذ في الاعتبار دور الدولتين العربيتين وما يربطهما من جوار مع السودان، خاصة ما يتعلق بحق تقرير المصير الذي تريان انه سيقود الى انفصال الجنوب عن الشمال.

ولذلك بعيد ساعات من اعلان الاتفاق اعلن عن عزم الزعيم القذافي شد الرحال الى مصر للتشاور مع الرئيس مبارك حول ما ينبغي فعله ازاء مترتبات هذا الاتفاق. كذلك لزم التجمع الوطني المعارض الذي يقوده الميرغني والذي تعتبر حركة قرنق جزءا منه الصمت حتى كتابة هذه السطور ولم يبد المهدي زعيم حزب الامة المعارض رأياً بعد! لننتقل من الملاحظات الى جوهر الاتفاق ونبدأ بعلاقة الدين بالدولة، سيكون هناك كيانان، احدهما في الجنوب ويحكم في الفترة الانتقالية بدستور علماني، وآخر في الشمال ويحكم بدستور تكون الشريعة الاسلامية احد مصادر تشريعه، ويكون هنالك دستور ثالث يحكم العاصمة الفدرالية لا ينتسب لاي دين، على ان يكون للولايات حق اصدار التشريعات التي تريد ان تتحاكم بها. هذا ما كان من امر معالجة علاقة الدين بالدولة، اما ما يتعلق بحق تقرير المصير فإنه بعد فترة انتقالية تمتد الى ست سنوات يستفتى اهل الجنوب في مصيرهم ان شاءوا اختيار وحدة السودان في هذا الاطار وان شاءوا الانفصال فلهم ان يفعلوا. ولكن ما ينبغي ان يكون واضحا هو البرنامج الذي ان تحقق يكون خيار الوحدة هو الارجح حتى لا يكون خيار الانفصال بلا ضابط ولا رابط او يكون مرتعاً للابتزاز.. وان يكون الاستفتاء نفسه ليس شرطا نافذا اذا تحقق البرنامج الذي يتفق عليه وعلى نحو ما هو مطلوب. فضلا عن الجدل المثار حول مدى انطباق اهلية حق تقرير المصير على السودان.

وقياسا بهذه الحقوق التي منحت للجنوبيين لممارستها في ضوء دستور علماني وانتخابات ديمقراطية واستفتاءات شعبية، كيف ستكون حقوق وممارسات اهل الشمال؟ هل سيترك امرهم للجناح الحاكم في الجبهة الاسلامية لتقرر نيابة عنهم الطريقة التي يحكمون بها والدساتير التي تمثل ايديولوجيتها ورؤيتها للحكم؟ واذا لم يكن الامر كذلك فما الذي يجعلها تفرض الشريعة حكما دون استفتاء؟ ومن الذي اجاز لها ان تقبل بوجود كيانين منفصلين وجعل البلاد تحكم بثلاثة دساتير؟ وهل الولايات المتحدة الامريكية التي فرضت وصايتها ورؤيتها على السودان لا ترى هناك ما يدعوها للاهتمام بشأن اهل شمال السودان من حرية وديمقراطية الى اخره، بل يهمها التعاطي مع من يحكم وليس كيف يحكم باستثناء رعايتها واهتمامها باهل جنوب السودان؟! ترى هل يعيد التاريخ نفسه على نحو ما بين شمولية جعفر نميري وشمولية عمر البشير ازاء ما يخص معالجة مشكلة الجنوب؟ في مطلع السبعينات وقعت في اديس ابابا وبرعاية الامبراطور هيلاسلاسي اتفاقية السلام التي حققت السلام لمدى عشر سنوات باعطاء الجنوب حكما ذاتيا توافرت له كل اسباب ومناخات الديمقراطية من انتخابات برلمانية وحكومات تتناوب على السلطة الى آخره بينما حرم الشمال من كل هذه الميزات، وظل تحت شمولية نميري، واكثر من هذا كان نميري يفاخر بان الجنوب يمنحه كل الدعم في الحكم وهو لا يبالي بتململ الشماليين وعدم رضائهم عن حكمه! والغريب في الامر ان اخوتنا الجنوبيين تنعموا وقتها بالحرية والديمقراطية ولم يشاطروا الشماليين نضالهم ضد دكتاتورية نميري في الشمال، بل سكتوا على ادعاءات نميري في الاستعانة بهم لاسكات اصوات اهل الشمال الرافضة لشموليته.. حتى تنكر هو لاتفاقية الجنوب وعدلها دون التزام باسس التعديل! نحن لا نستدعي من الذاكرة هذه الامثولة لنعتب عليهم، وانما نسوقها خشية من ان يكون الامريكان في هذه الصفقة ـ اذا جاز الوصف ـ قد باعوا حقوق مواطنة اهل الشمال لحكومة البشير مكافأة لها على عونها غير المحدود في مكافحة الارهاب وتعقب اوكاره حيثما كانت بحكم درايتها السابقة وتسليمها الحاضر لامريكا بفعل كل ما تريده وترضاه، وكذلك لقاء تعاونها المستقبلي الموعود في البترول وفي الاستراتيجية الامنية للقرن الافريقي، خاصة ان ادارة بوش تبدي ندما لكون ادارة كلينتون لم تعر اذنيها لما كان يهمس به النظام وهو في ذروة تبجحه بالاسلام بانه سيبيع «الجماعة» بما فيها بن لادن وصحبه لامريكا لقاء اعتماده جزءا من منظومتها وحلفائها وتعزيز مكانته في الحكم! في كل الاحوال ان وقف الحرب واحلال السلام وتحقيق الاستقرار في السودان امور مطلوبة ومرحب بها على كل الاصعدة، لكن كل ذلك يجب ان يكون متوازنا ومحققا لكل مصالح الشعب السوداني اذ ليس من العدل في شيء ان يرفع الظلم عن طرف بينما يئن طرف آخر من وطأته، خاصة ان بعض التصريحات المنسوبة لجهات في الحكومة تشير الى ان قسمة السلطة ستكون بين الحكومة والحركة ما يعني استبعاد القوة السياسية الاخرى وفي هذا الصدد قال الناطق باسم الحركة ياسر عرمان: ان الاتفاق يدعو الى قيام حكومة انتقالية، لكن الحركة تشدد على حكومة ذات قاعدة عريضة تضم كل القوى السياسية فيما تتمسك الخرطوم بحكومة تضم الحركة الى جانب الحكومة الراهنة.

ولعل ما يدعو الى الشكوك والريبة الاشارة الى حكومة انتقالية دون الاشارة الى كونها (انتقالية قومية) ما يعني ان اسقاط كلمة قومية لم يكن صدفة وان النظام يصر على تقاسم السلطة مع الحركة ما يعني استفراده بحكم الشمال وان ما صدر عن الناطق باسم الحركة لا يمثل الا رغبة في استرضاء شركائهم في التجمع المعارض الذين لم يستشاروا قبل توقيع الاتفاق. واذا اردنا ان نكون اكثر مباشرة في مخاطبة الحقيقة، فعلينا ان نتوجه الى الولايات المتحدة بحسبانها راعية وعرابة الاتفاق بين الجانبين ونطلب منها ان تفصح عن حقيقة ما ينبغي ان يكون عليه شكل الحكم والقوى الممثلة فيه، وهي كما نعلم لن تخالفها الحكومة ولا الحركة وفقا لما جرى ويجري من اتفاقات. ونخشى ان يكون ما نسب للحكومة من رغبة في ابعاد الآخرين هو بايعاز او مباركة من سيدة العالم، خاصة ان المعارضة تزداد ضعفا بانقساماتها المتزايدة وعدم بروزها في الساحة على نحو يفرض وجودها وحضورها وهي لا تجد سندا بقدر ما تحاك المؤامرات ضدها ومن الحكومة على وجه الخصوص!