جغرافيا.. وتاريخ ثورة يوليو

TT

يبدو الحوار الدائر حول ثورة يوليو المصرية اشبه بالملاكمة والمصارعة بين طرفين يرى احدهما ان ثورة عبد الناصر هي شر مطلق وانها ضربت الاقتصاد المصري وكانت سبب الهزائم، ويراها الطرف الاخر كخير مطلق، وانها محررة مصر وموزعة الثروة، ورافعة العرب.

شخصياً اعتذرت عن كل مشاركة في المناسبة وفعل مثلي كثيرون بعد ان اصبح الحوار في هذه المناسبة في كل عام مثل مباراة للاهلي والزمالك، لا مكان فيها الا للابيض والاسود، ولا هدف منها سوى الانتصار على الخصم، حتى ان بعض المصريين يطلق عليها «مولد يوليو» تشبهاً بالموالد والاحتفالات التي تمتلئ بها ايام المصريين.

الاحزاب الناصرية في مصر هي اكثر الاحزاب المصرية تشرذما، ومعظم تلك الاحزاب الصغيرة انقسمت الى احزاب اصغر، وفشلت كل محاولات التوحيد في ما بينها، ويبدو ان هذه الاحزاب تعيش عقدة التباين في تقييم تجربة عبد الناصر، فهناك من يعتقد ان الناصرية ايديولوجية ونظرية، وهناك من يرى انها تجربة حكم شابتها الاخطاء والنجاحات وامتزجت فيها الانتصارات بالهزائم، وهناك خلط واضح بين التقييم الشخصي لعبد الناصر باعتباره شخصية «نبيلة» ومخلصة، وان كل الاخطاء ارتكبتها «البطانة السيئة» المحيطة به، وبين تجربة حكم اختلط فيها الخاص بالعام، وتجب قراءتها على ضوء نتائجها باعتبار انه لا يكفي ان تكون نظيفاً، بل يجب ايضا ان تقدم شيئاً ملموساً للناس.

حوار يوليو عبر الفضائيات والصحافة اصبح مملاً الى درجة مدهشة، فالمطلوب ان تتحدث بالاخلاقيات والمطلوب ان تقف في صف الشياطين او الملائكة، رغم ان البشر هم البشر، وليس مسموحاً الا ان تشتم او تمدح، تتحدث في الايجابيات دون ان تتجرأ على كلمة واحدة في السلبيات والعكس صحيح. وهو حوار مكرر لا يقدم ولا يؤخر، يناقش تجربة حكم عبد الناصر خارج اطار التاريخ والجغرافيا، والظروف الاقليمية والدولية في ذلك الوقت، ويعتقد ان الزمن يكرر نفسه.

فترة عبد الناصر كانت فترة حركة الاستقلال والتحرر العالمي من الاستعمار، وفترة الحرب الباردة في ظل معسكرين كبيرين، وفترة البحث عن الهوية في عالم عربي يعيش التبعية، والمشروع الصهيوني، وهي فترة مختلفة جذريا عما نعيشه اليوم، لكن الحوار الدائر اليوم في ذكرى يوليو يحاول انتزاع تلك التجربة وتجريدها من تاريخيتها وجغرافيتها.