سوسيولوجيا الأغنية العربية: هجَّرت الاشتراكية الناصرية الأطرش وتبنت عبد الحليم

TT

لا أومن بالصراع الدموي بين الطبقات، لكن لا بد من القبول بالتفسير الماركسي الواقعي للبنية الاجتماعية. ماركس في تأمله للتاريخ ودراسته العلمية للمجتمع ميز بين عدة فئات اجتماعية على اساس اقتصادي وثقافي. وبات مستحيلا على اية رؤية رأسمالية او اشتراكية تحليل الوضع الاجتماعي، دون اعتماد الفروق الطبقية التي لاحظتها الماركسية.

تعرضت الطبقة الوسطى الى ظلم كبير في هذا الفرز. فقد الحقها ماركس بمصالح الطبقة التي فوقها، واسند الى الطبقة التي دونها (البروليتاريا) مهمة الثورة والحكم والسيادة الاجتماعية، وصولا في ظنه الى مجتمع بلا طبقات. وظلمت الرأسمالية الطبقة الوسطى ايضا عندما جعلت منها طبقة استهلاكية يرتبط تطويرها بمجرد زيادة قدرتها على الاستهلاك والانتاج.

لقد قامت الثورات الحداثية على اكتاف البروليتاريا. لكن الاستقرار الاجتماعي قام على اكتاف الطبقة الوسيطة، بحيث يمكن القول ان انجازات عصر التنوير والحداثة كانت ثمرة ابداع وانتاج هذه الطبقة الاجتماعية.

العصر العربي الحداثي كان ايضا من صنع الطبقة الوسطى. في النصف الاول من القرن العشرين نمت المدينة العربية وازدهرت فيها طبقة وسيطة عريضة. وحملت هذه الطبقة معها قيمها وفضائلها الاجتماعية من ليبرالية سياسية، وتسامح اجتماعي، وتعايش سلمي مدني، وحيوية فكرية، وزخم ثقافي وفني.

هذه الليبرالية الاجتماعية سمحت بظهور عمالقة قادوا حركة التطوير والتجديد في كل مجال. وسواء كانت الجذور الاجتماعية لهؤلاء العباقرة بورجوازية او اقطاعية، ارستقراطية او بروليتارية، فقد كان التحاقهم بالطبقة الوسطى وتبنيهم لقيمها الليبرالية اساسا ومنطلقا لابداعهم وانتاجهم.

في عصر عمالقة الفكر، كان لا بد من ظهور عمالقة في الفن. لقد فرضت الطبقة الوسطى تغييرا حداثيا في الذوق الفني. في الفن الغنائي، وهو اكثر الفنون شعبية، تم الخروج على «الدور» في ترداده واطالته وآهاته. وبات الوقع البطيء للحن الاقرب الى الصوفية المتدروشة اكثر سرعة ليتماشى مع عصر طبقة مدنية اكثر اتساعا وتطورا وثقافة. وارتقت الكلمة من السوقية المبتذلة الى لغة شاعرية فصحى او عامية اسمى نسبيا في معانيها ومدلولاتها العاطفية والاجتماعية.

تبلورت الحداثة الغنائية في مدرستين: مدرسة التطوير في اطار القديم، وكان القصبجي وزكريا احمد والسنباطي وام كلثوم ابطالها لحنا واداء. ومدرسة التجديد دون التخلي عن الاصول، وكان عبد الوهاب، ثم فريد الاطرش، نعم فريد الاطرش وعبد الحليم حافظ والرحابنة عمالقتها، ويردفهم عمالقة جيل موسيقي آخر في مقدمته بليغ حمدي والموجي وكمال الطويل...

لعلي وفيت عبد الوهاب حقه في الحلقات السابقة. ومن واجب الوفاء التنويه بفنان آخر، ربما لا يقل عنه شأنا، لكن تعرض الى ظلم فني واجتماعي كبير. لقد ارتبط فريد الاطرش في الاذهان بحياته الخاصة المرفهة واللاهية، وبسذاجته الفكرية، وحساسيته الشخصية، الا ان انجازه الحداثي الضخم كان نتاج كفاح طويل وسهر لصقل واتقان مدرسة فنية خاصة به في اطار المدرسة الحداثية.

عبد الوهاب وفريد رائدا الرومانسية الغنائية الحداثية. مؤرخو الفن الغنائي المصري لا يقرنون اسم فريد مع عبد الوهاب. لكن الامانة النقدية المنصفة تفرض القول ان الاغاني التي قدمها فريد الاطرش في مطلع مسيرته الفنية في اواخر الثلاثينات (صدقيني لما قولك، راح ييجي يوم...) تكفيه وحدها لتخليده كرائد الى جانب نده، بصرف النظر عن اضافته الملحمية في الاوبريتات السينمائية.

لقد فرض فريد فنه ولونه الموسيقي في عصر العمالقة. وكانت الاغاني التي لحنها لشقيقته اسمهان اكثر روعة وعاطفية (نويت اداري الامي، رجعت لك يا حبيبي...) من تلك التي قدمها لها القصبجي ومدحت عاصم والسنباطي في ذروة تألقهم.

ظل فريد الاطرش فرانك سيناترا العرب على مدى يقرب من اربعين سنة. لقد فقد عبد الوهاب صوته في مطلع الثلاثينات، لكن حداثته الموسيقية ابقته متوهجا. ولم يفقد فريد صوته الا في مطلع الستينات، وراح يكرر نفسه وموسيقاه في بطء عجيب الى حين وفاته! مع ذلك، فما زال فريد كعبد الوهاب نجماً متألقاً في طول العالم العربي وعرضه.

لكن الظلم الفني المصري لفريد ما زال مستمرا في تجاهل دوره ومكانته، على الرغم من انه التزم المدرسة الحداثية المصرية لحنا واداء ولهجة، واوصى بدفنه في مصر، وعندما وصل نعشه الى القاهرة خرج عشرات ألوف المصريين العاديين لتشييعه، فكانوا اكثر وفاء له من نقاد الفن ومؤرخيه، بل هناك اليوم من يتطاول على فريد لينتزع منه لقب ابرع عازف على العود في القرن العشرين، وربما في تاريخ العرب.

وصلت الرومانسية الغنائية الى قمتها في مزاوجتها الحداثية بين الاصول والموسيقا الغربية في «الجندول». لكن الثورة الناصرية كانت في حاجة الى صوت اكثر صلابة وجرأة وفحولة من صوت عبد الوهاب الانيق الناعس، ومن صوت فريد الذي يقطر حزنا. والناصرية في بحثها عن هذا الصوت كانت من الذكاء بحيث حسم عبد الناصر الجدل رافضا منع ام كلثوم وعبد الوهاب بحجة انهما غنيا مدائح لفاروق والملكية.

جاء عبد الحليم حافظ من عمق الريف المصري حاملا في كبده جرثومة البلهارسيا وفي حنجرته صوتا عريضا ذا طبقة واحدة فيه من الرجولة المصقولة ما يكفي للتعبير عن جيل ناصري جديد اكثر جرأة وطموحا وتمردا.

كآيديولوجيا سياسية، جندت الناصرية المؤسسة الفنية في خدمتها، عبر الزام عمالقتها ونجومها بأداء اغان وطنية حماسية مقرونة بتمجيد واشادة بـ«البطل». وكان عبد الحليم اشد صدقا وحماسة في مجاراة جيل الخمسينات في الاعجاب بناصر، بحيث بات يقدم اغنية جديدة لـ «البطل» في الذكرى السنوية للثورة! بل وصل عبد الحليم الى الايحاء في اغانيه العاطفية الى نضال عبد الناصر والصعاب التي يواجهها والنكسات التي تعرض لها. فعل ذلك فيما كان فريد الاطرش وغيره من الفنانين يهاجرون الى بيروت بحثا عن بيئة اكثر ليبرالية بعدما تحولت الناصرية اثر الانفصال عن سورية من الدعوة القومية الى تبني الاشتراكية الماركسية المتقشفة والكئيبة.

كانت الهجرة تصرفا شخصيا بحتا، فلم تحارب الناصرية فريد الاطرش. فقد كان عبد الناصر يدرك مدى شعبية هذا الفنان الكبير في العالم العربي، وحاول زجر عبد الحليم عن ايذائه عبر شبكة علاقاته السياسية والصحافية الواسعة. لكن فريد رغب في ان يكون من خلال بيروت اقرب الى علاقاته العربية، وخاصة الخليجية، مما هو في القاهرة التي اشتبكت مع الخليج في مواجهة دامية في اليمن.

وعي عبد الناصر الكبير لقيمة الفن السياسية والاجتماعية دفعته الى عقد زواج بين المدرستين التقليدية والحداثية، عبر تكريس عبد الوهاب للتلحين لأم كلثوم. وشهدت الستينات الناصرية ازدهارا غنائيا كبيرا، بحيث اتهم الغناء الملحمي الطويل والخدر الذي تشيعه ام كلثوم في التسبب بالهزيمة العسكرية.

كان بليغ حمدي نجم هذا الزخم الغنائي بلا منازع! فقد اصغى هذا الموسيقي البوهيمي الى وقع الشارع الشعبي في الريف والمدينة، ليصوغ من الفولكلور المصري والسوري (قدك المياس، سواح...) الحانا تضج بالحياة، وجعلت عبد الحليم حافظ المستفيد الاكبر منها يقدمه الى جمهوره كـ«امل مصر في الموسيقا».

الساداتية في حلفها مع الاصولية ضد الناصرية لم تعرف استمالة المؤسسة الفنية (باستثناء عبد الوهاب). ولم يكن غريبا ان تشهد الردة ضد العروبة موت عبد الحليم 1977 وفريد 1974 وام كلثوم 1975. استمر بليغ بعد غياب حليم في تفجير عبقريته عبر اصوات شابة كوردة ونجاة وفايزة، لكن حياته البوهيمية وميوله الناصرية ادت الى نفيه من مصر. وعندما عاد في عام 1990 إثر المصالحة مع العروبة، لم يأذن المرض له بالاستمرار طويلا.

هل كان موت عبد الوهاب في عام 1991 وهو متشائم من «مستقبل الفن» نهاية للحداثة الغنائية العربية، ام سمح موته بميلاد غناء جديد؟ لنحاول الوصول الى جواب في الحلقة الاخيرة من «سوسيولوجيا الاغنية العربية» في الثلاثاء المقبل.