هل تصلح دبلوماسية الموسيقى ما أفسدته السياسة؟

TT

في اليوم نفسه الذي اندفع خلاله مئات آلاف الإيرانيين إلى الشوارع للتظاهر سخطاً على السياسة الاميركية حيال بلادهم، تحمرّ وجوههم غضباً وهم يهتفون: «فلتسقط أميركا» و«الموت للشيطان الأكبر»، كان اللبنانيون يصفقون بنشوة في «مهرجانات بيت الدين» لسحر التناغم الإبداعي الأميركي ـ الإيراني، الذي كان يقدم ممزوجاً بنكهة هندية. فالمواويل الإيرانية التي تشدو بها المغنية سوشن دهيم، تندغم في الصدحات الهندية لسلطان خان على وقع معزوفات الملحن الأميركي بيل لاسويل ونغمات غيتاره الكهربائي، وموسيقى «دي دجه» المصنفة «سوبر إمبريالية»، والحضور يتمايل في طرب، وشديد افتتان.

قد لا يكون صحيحاً القول ان ما تفسده السياسة تصلحه الموسيقى، إنما تنجح الموسيقى، بالتأكيد، حيث تخفق السياسة، وتفشل الاتفاقات التجارية، وتسودّ وجوه المفاوضين الذين يعتمدون لوك العبارات الممجوجة أكثر مما يصغون إلى صرخات الضمائر. وكل كلام على المكر التجاري للشركات الكبرى المنتجة للموسيقى، ومحاولتها العبث بالأذواق البشرية من أجل السطو على الجيوب، أمر لا يخالجه شك، لكن ثمة فورانات شعورية غير منظورة تفلت من سيطرتها، وتفاعلات كيميائية عاطفية خصبة تعود بالنفع على الثقافات المقهورة تتعدى حساباتها. وصعود نجم الموسيقى الشعبية قد يكون نصراً للمستضعفين أو وبالاً عليهم، لكن الراي والسالسا والسامبا هي من الفنون التي لا تستطيع إلا أن تحتفي بانتشارها، ولو على حساب نقائها العرقي. لأن الموسيقى المحلية أمام خيارين: فإما أن تندمج في أجواء هذا العصر الهجين حتى النخاع، أو أن تتقوقع وتذوي في أرضها. والمختصون بدراسة الظاهرة أنفسهم، يعترفون بأن ما يشهدونه من غليان موسيقي عالمي امتزاجي، هو من السرعة والتعقيد بحيث يصعب التكهن بمستقبله. وكل ما نستطيع أن نجزم به اليوم هو أن الآهات والصرخات الجماعية المتوقدة، تتعالى وتشتد أمام الأنغام الحديثة المنكهة ببهارات الهند وأوجاع الجزائر وحمى أفريقيا، وان المنتجين يحصدون المليارات بمسايرتهم لأذواق باتت تنحاز لصالح التزاوج الموسيقي وثمراته الخلاسية. فالموسيقى العصرية من القوة بحيث لا تمزق طبلة الأذن وحسب، إنما تخرق الحدود وتقفز فوق النعرات. بل ان الموسيقى غلبت الرواية وسبقت السينما واستقوت على الشعر، فهي قد تقترن بالكلام، لكن لتطوعه وتستعمله، وتجعل منه وحدات إيقاعية صوتية مبهمة. وهو ما حدث لأغنيات الراي التي يرددها الشباب الأوروبي والأميركي بالعربية دون أن يفهمها، لأنه يقرأها مكتوبة بالحرف اللاتيني، وتصبح بالنسبة له همهمات تصاحب النغم. والصوت الإنساني، بهذا المعنى هو آلة جميلة تضاف إلى مجموع الآلات التي تصنع جمال اللحن، كما كان غناء الفنانة الإيرانية في «بيت الدين» منذ أيام، حين استطاعت أن تطرب وتعجب بصرف النظر عن المعنى الذي ترمي اليه كلماتها.

ولعل احد أنفع التخصصات هذه الأيام، هي تلك التي بدأت تنبثق عن أقسام علم النفس لتدرس تأثيرات الموسيقى في النفوس، وإمكانية استخدام هذا التأثير في ميادين مختلفة، فليس جزافاً أن يتحول نجوم الغناء والموسيقى إلى أعضاء في الوفود السياسية أثناء الزيارات الرسمية، كما هو حال الشاب خالد، وذلك توثيقاً للعلاقة بين الجزائر وأميركا واستثماراً لمكانته الرفيعة بين الأميركيين. أما فيروز، في هذه الأجواء، فلم تعد سفيرة لبنان إلى النجوم بل إلى شعوب الكوكب، إذ لم يسبق لفرنسا، إعلاماً وشعبا، أن احتفت بها كما فعلت أثناء حفلها الأخير هناك، ربما لأنهم ما عادوا يهتمون لفهم ما تقول بقدر ما يعنيهم كيف تقوله. فالوصول إلى العالمية بات رهناً بمهارة أسر القلوب التي لا تكتسب من دون أصالة بالدرجة الأولى ومن ثم تطوير التراث وتحديثه ومزجه بما يتناسب والذوق الموسيقي الكوني.

ولا أحد يملك أن يجزم إذا ما كانت هكذا موسيقى هي إنقاذ للهوية أم رقص على أنقاضها. فالاحتمالات تبقى مفتوحة، لكن الطريق مسدودة، على أي حال، أمام الكثير من فنانينا الطامحين إلى العالمية على طريقتهم الاستخفافية، رغم انهم قطّعوا نعالهم جيئة وذهاباً بين العواصم، بحثاً عن شهرة تتعدى جمهورهم العربي الذي خدعهم وأصابهم بالصمم لشدة التصفيق والتهليل. وقد بلغت حال الفن الموسيقي الغنائي العربي حداً جعلت إحدى المسؤولات عن مهرجان دولي للفيديو كليب تعترف أن لجنة المهرجان أرهقها العثور على أشرطة عربية متميزة لإشراكها في المسابقة، لأنها جميعها تتشابه في ما بينها وتعتمد مشهداً مكروراً يمكن اختصاره بفتيات جميلات وسيارات فارهة وأجواء ارستقراطية، لا تشبه الناس الذين تمثلهم في شيء. فالموسيقى العربية فقدت بوصلتها، ووحدها موسيقى الراي استطاعت أن توصل وجع الشارع الجزائري إلى نيويورك وطوكيو في وقت واحد. والفنانون العرب مدعوون لمعرفة، ولو محدودة، بتاريخ الموجات الموسيقية المعاصرة، وكيف أنها في غالبيتها الساحقة ممزوجة بعرق الفقراء ودفق دماء المضطهدين. فموسيقى الهيب هوب ورقص الراب، اللذان يكتسحان العالم اليوم، هما نتاج تمرد السود الاميركيين على البيض أواسط السبعينات، وما تزال تفوح منهما روائح الحرائق التي أشعلوها احتجاجاً على عوزهم وخيبة أملهم وهامشيتهم. وقد نفهم روح هذه الموسيقى لو أصغينا إلى الشاعر الاميركي عامري بركا يقول أواسط القرن الماضي قبل بزوغ الهيب هوب: «نريد شعراً يقتل، شعراً يطلق الرصاص، شعراً يحاصر رجال الشرطة في الشوارع المسدودة ويجردهم من سلاحهم». ومثل الشعر لا بل وأدهى منه، هي الموسيقى التي تستطيع أن تضحك أو تبكي وقد تحث على الجريمة أو تقحم في الحب أو تحرض على الغدر، كما تستطيع أن تخرج الكسالى من مقابر سباتهم، فما بال موسيقانا تقرقع وتفرقع وتبقى وكأنما لا مهمة لها سوى تصديع الرأس. هلا كلف فنانونا أنفسهم وأصغوا إلى الفيلسوف الفرنسي جان جينيه ينصحهم قائلاً بأن «كل موسيقى مهما بلغت جدتها فهي ليست اكتشافاً، بقدر ما هي محفورة في أخاديد الجسد، وهاجعة في الذاكرة حتى ولو كانت غير مسموعة».

قليل من الإصغاء إلى خلجات النفس وهمسات الطبيعة، يجعلنا جزءاً حياً من هذه الكونية العصية، التي لا نعرف كيف نمسك بأسرارها على بساطة المعادلة ووضوحها.

[email protected]