كل هذا الدمار.. ثم؟

TT

ترى كيف سيكون حال الفلسطينيين في العام الخامس والعشرين من الالفية الثانية، عندما يودع العالم الربع الاول من القرن الواحد والعشرين؟ لا يعلم الغيب الا عالم الغيب. اما الذي نعلمه نحن البشر، لأنه واقع ماثل امامنا، فيقول ان الحال الفلسطيني سياسيا يبدو هذه الايام وكأن الفلسطينيين لم يغادروا بعد عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، عندما كانوا ينتظرون ما يصدر في شأن قضيتهم من لندن، او غيرها من عواصم العالم، او يأملون خيرا في مقررات لجنة ثلاثية او رباعية، لماذا؟ أما كان في وسع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ان يكونوا في حال افضل مما كانوا عليه قبل اقل من عامين فقط؟

نعم، قبل الثامن والعشرين من ايلول (سبتمبر) 2000 لم يكن الحال ورديا في الضفة والقطاع. صحيح، لم يكن هو الحال الذي يوصف بأنه غاية المراد. لكن وضع الناس كان افضل مما هم عليه الآن. لم يكن القطاع مقطعا كما هو الآن. كان الانتقال من قلب مدينة غزة الى وسط مدينة رفح ثم عبورها الى مصر متاحا، ولو بالصبر على بعض الاجراءات في نقطتي العبور. اليوم يحتاج المشوار من غزة حتى رفح فقط (45 كيلومترا) الى ثلاثة ايام. اليوم يمضي القادم من مصر الى غزة ثلاثة او اربعة ايام ينتظر السماح بالعبور الى غزة، والعكس صحيح بالنسبة للمسافر الى مصر.

لكن مسألة السفر والتنقل هذه يراها منظرو «كل شيء أو لا شيْ» نوعا من الترف. لم لا؟ يسأل احدهم، فليعانوا في سفرهم وليتحملوا معاناة الحبس وفقدان حرية التنقل، هذا جزء من ثمن حرية الوطن. صحيح، والمساكين يتحملون بلا شك. لكن حضرة السائل المعترض هو على الأغلب احد الذين لا يعرفون طعما لهذه المعاناة، هم ليسوا في الوطن اصلا، الواحد منهم يسافر من عاصمة اوروبية الى اخرى أنّى شاء له السفر، يركب من الطائرات ما يحلو له، وينزل في افخم فنادق عواصم العالم حيثما حل. اين المشكلة، اذن، ولماذا لا يتحمل «اولاد المخيمات» ما يجب ان يتحملوه؟ طبعا، يجب ان يتحملوا، ومن واجبهم ان يصبروا، ليس فقط من اجل الوطن، بل ايضا مراعاة لخواطر الذين بحت اصواتهم، وتفتت اعصابهم وهم يصرخون من مقاعدهم المريحة، مطالبينهم بالاستمرار في تحمل ذل الحبس، ومر الحصار، ووجع البطالة وغرغرة الدمعة في العين حين يمد الصغير يده محرجا، خجلا قبل ان يغادر الى المدرسة: «معك شيكل يا بابا»، كيف لا تدمع عين «البابا» وجيبه خاوية؟

قولوا لنا، هل بين اساتذة وكبار منظري مدرسة (كل شيء أو لا شيء) من يعجز عن تلبية طلب صغير كهذا لأحد صغاره؟ على كل حال، دعونا من السفر والتنقل، ترفا كانا ام قرفا، ودعونا من الفقر والجوع، فالفقر ليس عيبا، والجوع يتحمله أشداء الرجال و«أطفال الحجارة» ـ هم فقط يتحملونه، اما الذين يحمسونهم من بعيد فيحتاجون الى دسم الطعام ولذيذ الشراب كي يفكروا وينتجوا ـ دعونا من هذه «المسائل الصغيرة» ولنسأل عن الأهم:

ـ بلغت خسارة الضفة والقطاع منذ 28 سبتمبر 2000 اكثر من ستة مليارات.

ـ دفنوا في القطاع والضفة اكثر من الف شهيد.

ـ أصيب اكثر من ثلاثين الف شخص، بينهم كثيرون بعاهات دائمة.

ـ اقتلعت آلاف الاشجار، وجرفت مساحات واسعة من الاراضي، وهدمت مئات المنازل.

ـ أتلفت اقراص وأجهزة كومبيوتر، وأحرقت ملفات وأوراق وخطط ومناهج.

ـ باختصار، ويا له من اختصار، دمرت بنية تحتية بأكملها، وتبدد جهد ست سنوات (من 94 الى 2000)... والنتيجة:

ـ توسيط القريب والبعيد، أشقاء وأصدقاء، فقط من اجل استئناف المفاوضات، مع شارون نفسه، والمطلب الفلسطيني هو باختصار، ويا له من اختصار ايضا، العودة الى خطوط (وهناك من صار يسميها: حدود) 28 سبتمبر 2000 فيما الجزار يتمنع ويشترط، ويطلب من واشنطن فيجاب.

هل كان يجب ان يحدث كل هذا الدمار حتى يعود الفلسطينيون الى وضع كانوا عليه، وكان في وسعهم تحقيق افضل منه؟

وهل العقلية التي تسوق الفلسطينيين من نكبة الى نكسة، ومن نكسة الى مذبحة، فكارثة، او كوارث، هل هي التي ستظل لها الغلبة؟ اذا استمرت العقلية ذاتها، بصرف النظر عن الاشخاص، فالأرجح ان حال 2025 لن يكون افضل، ان لم يكن اسوأ.

ربما نرى كشمير دولة مستقلة، فيما الفلسطينيون ينتظرون من يقول لهم، من هذه العاصمة او تلك، ما الذي عليهم ان يفعلوه؟