من يخدع الأرض تخدعه

TT

وحشية الانسان ضد الطبيعة تنتج دماره الحتمي كانت الطبيعة في ذهن انسان (ما قبل العلم) سؤالا مغلقا! قوى غامضة، خرافية، مخيفة، متسلطة، مدمرة خارجة عن سيطرته. وكان لها وجهها المعطاء بطبيعة الحال. فهي رحم الوجود الخصب. انها مصدر الحياة/ الولادة. الملاذ والغذاء والماء، ودفء الشمس والنار.. لذلك تلقاها الانسان (في طور طفولته المعرفية) بالسحر والطوطمة لفك غوامضها ودرء اخطارها. وايضا لتقديس خصبها وعطاياها. فسرها بالاساطير والفكر الوحشي والفلسفة الغيبية. ثم جاء العلم ليصارعها، ليكتشف قوانينها كي يستخدمها في السيطرة عليها! كان توسل المدعو انسان بالعلم للسيطرة على الطبيعة توسلا انانيا، عدوانيا، مدمرا، لقد ارتكبت البشرية جرائم كبرى ضد الطبيعة، مستمرة منذ بدء الثورة الصناعية قبل اكثر من ثلاثة قرون.

ثلاثة قرون من حرب الانسان المدمرة للطبيعة بحجة استغلال مواردها واستخدام امكاناتها من اجل التقدم والتمدن! من الطبيعي ان ينتفع البشر من الطبيعة، موارد وامكانيات، لكن الامر لم يكن انتفاعا معقولا او استغلالا مشروعا، وانما كان ولا يزال، نهبا شرها وخرابا مطردا ومحرقة جهنمية، بدأت بالفحم الحجري ووصلت الى محرقة النفط الكونية وافران الطاقة النووية المرعبة.

النتيجة: تدمير الغابات وانتشار المواد السامة وتحميض مياه البحيرات، وتلوث الهواء والانهار والبحار والمحيطات وانقراض الحيوانات. فكان الخلل الرهيب الذي اصاب معادلات التوازن الاحيائي والنظام المناخي وجهاز مناعة الطبيعة، عندما تغير نظام «النسب بين الغازات الرئيسية المكونة للهواء (الاوكسجين والنتروجين)، تلك النسب التي ظلت ثابتة على مدى آلاف السنين وهي النسب المسؤولة عن تنظيم عمليات الحياة كافة. وعلاوة على ذلك اضيفت الى الغلاف الجوي غازات جديدة مثل غاز الكلوروفلور وهايدروكربون ذي السمعة السيئة الذي صنعه الانسان، وهذا الغاز، بالاضافة الى الاوزون القريب من سطح الارض، يساهم ايضا في حدوث ظاهرة الصوبة «حسب ما جاء في تقرير» نادي روما قبل 12 سنة، عندما كانت ظاهرة الصوبة مثار جدل غير متحقق منه علميا، وقد جاء في هامش صغير في التقرير، ان التأكد من ظاهرة الصوبة الخطرة بشكل قاطع لن يتأتى قبل مرور عشر سنوات، وعندئذ اذا ما تم التحقق منها. وهو الاحتمال الارجح. فإنه سيكون من الصعب اتخاذ اي اجراء حيالها لأن ذلك سيكون بعد فوات الاوان، وصدق تنبؤ التقرير العلمي. فهل فات الاوان حقا؟! لقد اصبنا امنا الطبيعة بثقب اوزوني سرطاني يتسع بارتفاع مستوى الكربوديوكاسيد المتصاعد من 280 جزئيا في المليون في كتلة الهواء الى ما فوق 360 جزئيا في المليون، اي تلوث الهواء بحوالي 28 بليون طن من غاز الكربون الناجم عن احراق النفط والغازات والفحم، والى ذلك اقتلاع الاشجار، الامر الذي سيؤدي، كما يرى العلماء، اذا استمر على هذا النحو الى ارتفاع درجة الحرارة فوق معدلاتها الطبيعية بدرجتين الى اربع درجات مما يفقد نظام المناخ توازنه الطبيعي، ويصيبه بالهستريا، وان لن يكون لارتفاع درجات الحرارة تأثيرات شديدة الخطورة في المناخات الاستوائية، فان تأثيرها المدمر سيكون جليا في المناطق القطبية عندما ترتفع درجات الحرارة الى عشر درجات، محدثة ذوبانا تدريجيا للصحارى الثلجية العظيمة وجبال الجليد العملاقة! ومع ارتفاع الحرارة سيرتفع سطح البحار والمحيطات، فتدمر الاعاصير الشواطئ، وتتعاظم ملوحة مصبات الانهار، وتتلخبط درجات المد والجزر، ويختلط التلوث الكيميائي بالتلوث الميكروبيولوجي، وتغدو الفيضانات مشهدا طبيعيا وكذلك هجرة ملايين الجوعى والمشردين من اجناس مختلطة بلا حجوزات مسبقة ولا جوازات سفر! يتدفقون من مناطق خطوط العرض عند خط الاستواء الى المناطق الاقل حرارة المتبقية في الارض! انه انتقام الطبيعة من الانسان، انتقام الأم من ابنها العاق الملوث والملوث، كونه ما كان ليلوث الطبيعة ويدمرها لو لم يتلوث بنزعة سيادة الانسان على الطبيعة وبقية مخلوقاتها، ثم سيادة جنس من البشر على بقية الاجناس، حيث مليار من اغنياء الشمال يستهلكون 80 في المائة من موارد الارض المتاحة بينما تتنازع نسبة العشرين في المائة الباقية (5 مليارات) من فقراء الجنوب.

ان مسؤولية خراب بيئة الطبيعة وطبيعة الانسان ايضا، تقع، بالدرجة الاولى، على الانسان الابيض، سليل عصر الرأسمالية المتوحشة، التي كانت تسيطر عند نهاية القرن التاسع عشر على 35 في المائة من اراضي العالم! وتوسعت سيطرتها الاستعمارية الوحشية لتصل، عند بداية الحرب العالمية الاولى 1914، الى حوالي 84 في المائة من اراضي العالم! والسؤال: ما العمل؟ هل يمكن النجاة من تحقق هذه الرؤى الكارثية عن نهاية الارض بسبب الانفجار السكاني واستنزاف الموارد والتفاوت المرعب بين بذخ الشمال وبؤس الجنوب وفوق كل ذلك انهيار النظام المناخي؟! هل بالامكان تجنب الكارثة او الكوارث المتوقعة عبر ضبط النسل ومحاربة الفقر من خلال مشروع «مارشال» كوني انمائي يموله الشمال لصالح الجنوب، الى جانب الالتزام الفوري بتنفيذ مقررات بروتوكول كيوتو التي تهدف الى خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري الى نسبة انبعاثاتها في سنة 1990؟ بوش الابن انسحب، باسم بلاده، من بروتوكول كيوتو الذي وقعته الادارة السابقة عام 1977، وهو بالتالي، انحاز بالولايات المتحدة الامريكية الى اطماع رأسمالييها المفسدين على حساب مصير الارض ومستقبل البشرية.

ذكرني موقف بوش الابن بموقف ابيه في «قمة الارض» التي عقدت في ريو دي جانيرو بالبرازيل، وكنت ضمن مئات الصحفيين والآلاف من اعضاء المنظمات غير الحكومية، نتابع خطاب بوش وهو يتحدث بلغة تفيض انسانية عن خطورة العبث بالبيئة على حساب رصيد اطفال المستقبل، ثم استعار الحكمة الصينية القائلة ان «من يخدع الارض تخدعه الارض»، وقد رفعت المظاهرات المعارضة لموقف امريكا المنافق شعار «الولايات المتحدة تخدع الارض»، فهي تتحدث برومانسية محلقة عن ضرورة انقاذ الارض، لكنها على ارض الواقع رفضت التوقيع على معاهدات رئيسية بدافع الخوف من تضرر الوظائف الامريكية والالتزام بأعباء مالية لانقاذ البيئة والمساعدة في تنمية دول الجنوب الفقيرة، وبسبب موقفها الاناني خرجت القمة باتفاقات قاصرة. وبعد عشر سنوات من «قمة الارض» كرر بوش الابن رفض ابيه بانسحابه من بروتوكول كيوتو، وانسحابه ايضا من معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. ان الولايات المتحدة بالدرجة الاولى، وتليها الدول الغربية الصناعية، المسؤول الاول عن تدمير البيئة، ولذلك عليها ان تدفع ديون الارض بدلا من مطالبة الشعوب الفقيرة برد الديون المركبة الفوائد اليها.

ان حقوق الارض اولى من حقوق الانسان، والجرائم المرتكبة ضد الطبيعة والبيئة لا تقل وحشية عن الجرائم المرتكبة ضد الانسانية، بل تفوقها بما لا يقاس فهي تهلك الاخضر واليابس، النبات والتربة والهواء والحيوانات، علاوة على المدعو «انسان»!.