شكرا عبد الناصر

TT

الجميل في جمال عبد الناصر أنه أظهر لزعامته (الكرزماتية) وشخصيته الجماهيرية الفاتنة مواطن خلل شديد تعاني منها أمة العرب تماما مثل المادة الكيميائية التي يحقن بها جسم المريض فتبرز هذه المادة ما خفي من علل وأسقام. والجسد العربي حقن بكيميائية عبد الناصر شديدة التفاعل فظهر للبشرية أمة تهلل للجبروت وتكبر للسطوة.. يلهب الجلاد جسدها بالسياط فتلهب أكفها بالتصفيق.. يمرغ كرامتها بالنكبات والنكسات وتبادله التبريكات والبسمات.. يخنق مفكريها (فتتخانق) جماهيرها لتحيته.. يتعامل بالدم مع مثقفيها ونخبها فتفديه الشعوب بروحها ودمها.. المكتظون في سجونه من المعتقلين بالألوف ولم ينافسهم في كثرتهم إلا المكتظون من المعجبين به في الشوارع العربية، تناقضات!؟ نعم لكنها لم تكن لتبرز لولا المادة الكيميائية الناصرية.

ظاهرة عبد الناصر أوجدت أمة عندها القابلية للتهييج: هيجها عبد الناصر في الستينات وهيجها القذافي في السبعينات وهيجها الخميني في الثمانينات وهيجها صدام في السبعينات وأخيرا هيجها (مجموعات) التغيير بالقوة التي هزت الكرة الأرضية بجسامة أحداثها في مطلع الألفية. فصارت لدينا فئات هائجة مائجة سامجة بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.

تاهت بوصلة العرب فصفقت الضحية للجلاد، ثم سرت العدوى إلى بوصلة الزعيم الأوحد وأصيبت عيناه بالحول الجغرافي فبدل أن تسيل دماء جنوده البواسل على روابي القدس تدفقت غزيزة على جبال اليمن، وظل المفتونون يمسحون الدم عن سيف الجلاد ويقبلون يده ويباركون بطولاته ويهللون لصولاته ويمجدون جولاته.

ناكف عبد الناصر الملكيات العربية وخاصمها وفجر في خصومته وفجر ثوراته فيها فسقط بعضها وترنح بعضها ونجت بقيتها، وعد عبد الناصر الشعوب (المملوكة) في عهد الثورات بعيش رغيد وعمر مديد وحكم عتيد، وها هي الشعوب الثائرة تلعن ساعة قامت فيها على ملكها و(تعض) أصابع الندم على ملك (عضوض) عاشت فيه ومعه تحت كنفه ـ برغم الفساد والأثرة ـ في عيش رغيد.

لقد أحسن إلينا عبد الناصر بأن كان تاريخه درسا في كيفية قراءة التاريخ، فالجدل الدائر هذه الأيام بين المثقفين والإعلاميين حول عبد الناصر وثورة يوليو والآراء المتناقضة الشديدة التناقض حول أحداث الثورة على الرغم من أن بعض صناعها وشهودها لا يزالون أحياء بين الناس يرزقون جعلنا أكثر قناعة بأن التاريخ محشو بالتزييف والوضع والتدليس وطمس الحقائق، علمنا درس عبد الناصر أن التزييف (الرسمي) للتاريخ مهما تطاول بنيانه واشتد وهجه وكثرت أبواقه واحتشد كاتبوه لا بد أن ينهار، وأن التاريخ الكاذب وإن شيد في سنين وأشرف على تماسكه سدنة التضليل فإن شمس الحقيقة تذيب جليد التزوير ولو كان جبالا.

وأما الأجيال العربية الجديدة فأظن أن أكثريتها لا ترى في ثورة عبد الناصر إلا أنها بالون ضخم أجوف أجاد عبد الناصر ـ غفر الله له ـ في نفخه وتكبيره فوخزته إسرائيل في عام 67 بدبوس صغير فهوى وذوى وهوت معه وذوت آمال جماهير عربية خدرتها شخصيته المؤثرة وغررت بها جوقة إعلامية أجاد في اختيار مهرجها.