حرية الخيار وخيار الحرية

TT

كثيرا ما انتقد ولدي آدم وقد تخرج في الفيزياء وانفتحت امامه سوح الصناعة والتكنولوجيا وأشاح عنها بوجهه ليعيش عيشة الكفاف على عزف الموسيقى. اقول له يا ولدي بامكانك ان تكسب الألوف سنويا من الصناعة وتعيش في ترف ورفاه. يجيبني ويقول: ولكن انت يا ابتي ماذا فعلت؟ انت ايضا تخليت عن مهنتك في القانون والقضاء ورحت تعيش عيشة الصعاليك ترسم وتكتب القصص. يسكتني بهذا الجواب. الابن على سر ابيه. وفي هذا المشوار الشائك في دنيا الفنون، عشت مع عشرات من زملائي ممن قاموا بنفس الخيار. تركوا الدنيا واهلها ليكرسوا انفسهم لدراسة الرسم والنحت والموسيقى والشعر والأدب. كرسوا حياتهم لعشق الجمال وفنون الجمال وفهم الجمال. وارتضوا من الدنيا بعيش الكفاف. واثناء ذلك، سار الآخرون مسارا آخر فكسبوا الثروات وبنوا القصور وتزوجوا بمن تزوجنهم لثروتهم. كل فريق اخذ خياره الذي يرضيه. بالنسبة لي ولولدي آدم ومن سار مسارنا، كل ما في خزائن الأرض من دولارات ويوروات لن يساوي لحظة واحدة من سماع ضربة على وتر او نظرة فاحصة على لوحة لسيزان او رمبرانت. افلا يمكن ان نطبق هذا الخيار على الشعوب؟ هذا هو السؤال الذي يشغلني. نحن المسلمين لنا ايماننا بالله وتطلعنا الى الجنة وما يترتب على كل ذلك من صفاء روحي. عندنا اغاني ام كلثوم وعبد الوهاب واشعار الجواهري وقباني. فوقنا هذه السماء الزرقاء الصافية وهذه الشمس الدافئة، امامنا هذه الشواطي الرملية الحالمة. نضطجع عليها ساهين لاهين، نغني لأنفسنا اغاني الهوى والنسيب «حبك انت شكله تاني، حب ناره مذوباني» نغني حتى نمل من الغناء فنستسلم لنوم رغيد لا نستفيق حتى نسمع أذان المغرب فنفيق ونتعشى على بصلة وكسرة خبز. لماذا يفترض علينا ان نسابق الأوربيين في الضرب والحرب، والكد والجد، في الجري وراء الثروة والترف، الشراء والأقتناء، ما لسنا بحاجة لأمتلاكه ولا بنا قدرة على استعماله؟ فليسهر الخواجات لياليهم في الحساب والكتاب ويبلعوا ما شاؤوا من الحبوب المنومة والمهدئة والمنشطة، ونحن غارقون في نوم قرير ولو على بساط من حصير. لنا خيارنا ولهم خيارهم. المشكلة طبعا هي أن قادتهم وقادتنا لا يتركوننا على خيارنا. يأتون الينا بعصاهم ويوقظوننا من نومنا القرير. هيا انهضوا لبناء المجتمع الاشتراكي. هيا انهضوا لنقيم الوحدة العربية. هيا بنا نحارب الأستعمار.

يا جماعة حرام عليكم. اتركونا نايمين. لا نريد ان نحارب احدا ولا ان نبني شيئا. نشأت كل هذه البلايا في افغانستان والجزائر والصومال والعراق من مجيء شخص ما خطر له ان يوقظنا من نومنا وخرب علينا غناءنا.

كل من يذهب الى البرازيل ويشهد كرنفالها، يرى كيف اتخذ شعبها هذا الخيار. سامبا ورومبا وكرة قدم وحب وغرام ويلعن حظ كل من يعكر صفو هذه الحياة الرخية بالتنمية والجري وراء الفلوس. مصيبتنا... آه! مصيبتنا هي اننا لم نحسن حتى هذا الخيار. لا فزنا بكرة القدم ولا رقصنا السامبا ولا سمحنا بالحب والغرام.