صراع المعتدلين والمتطرفين في لبنان والشرق الأوسط

TT

في لبنان صراع بين المعتدلين من مسيحيين ومسلمين ومتطرفين مسيحيين ومسلمين. وفي حين يغذي كل تطرف من جانب التطرف من الجانب آخر، فإن الاعتدال من جهة لا ينتج حتما اعتدالا من الجهة المقابلة.

ويشهد لبنان تصاعد حركة المتطرفين الذين يكسبون شعبية في مواجهة المعتدلين الذين يتراجعون، علما بأن تطرفين لا يصنعان وطنا بل حربا، وان الكيان اللبناني يحتاج الى اعتدالين ليستمر.

وما يحدث في لبنان هو امتداد لما يحدث في الشرق الاوسط. فسياسة ارييل شارون تثير قوى التطرف العربي وتستفزها. وسياسة جورج بوش المنحازة الى حكومة اسرائيل تعمل لصالح قوى التطرف على حساب قوى الاعتدال في المنطقة. ولم يسلم لبنان من هذا المناخ العام، فتمددت قوى التطرف فيه على نحو يضر بمصالحه ويسيء الى الوفاق الوطني ومسيرة السلم الاهلي. والمستفيد الاول من تصاعد التطرف في لبنان والمنطقة هو اسرائيل.

إن التطرف يشكل اليوم ظاهرة عامة. والصدام القائم في العالم هو بين المتطرفين انفسهم وليس بين المتطرفين والمعتدلين. وقد لا ينفع تدخل المعتدلين في وقف صدام المتطرفين، بل على العكس قد يدفع المعتدلون الثمن مجانا وعبثا.

إن جورج بوش يستغل ظاهرة التطرف من أجل مواصلة حربه على الارهاب، وليست لديه اية مصلحة في تغليب لغة الاعتدال على لغة التطرف، او البحث عن تسوية لصراع الحضارات او للصراع العربي ـ الاسرائيلي.

ويستغل ارييل شارون بدوره تصاعد التطرف من أجل مواصلة حربه على الفلسطينيين، ولا مصلحة له على الاطلاق في تغليب لغة الحوار على لغة العنف، او العودة الى طاولة المفاوضات والبحث في تسوية النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي.

واغرب ما في الامر ان المتطرفين في كل من واشنطن وتل ابيب يوظفون تطرفهم لتشكيل رأي دولي عام ضد قوى التطرف الفلسطيني والعربي والاسلامي، بما فيها سوريا والعراق وايران وحزب الله وحركة حماس. وتعمل الادارتان الاميركية والاسرائيلية على اساس انه لا مصلحة لهما في التفاهم مع هذه القوى، وعلى اساس ان وجود مثل هذه القوى يبرر تطرفهما، ويقدم شعارا قويا يدعم به نفوذ الادارتين كل في بلده.

وتفشي ظاهرة التطرف والتطرف المضاد تصيب لبنان. ومن الطبيعي ان تصيبه، كونه على تماس مع القضايا الاقليمية والدولية. ولا بد من احتواء انعكاسات هذه الظاهرة وتأثيراتها السلبية على الوضع اللبناني، حرصا على موقف الاعتدال الوطني الذي يثمر استقرارا داخليا، وحفاظا على مقومات المواجهة مع اسرائيل.

إن أي اختلاق للمواجهات بين اللبنانيين من شأنه ان يغذي نزعة التطرف على حساب نزعة الاعتدال مما يلحق الأذى بلبنان. وأي أذى يلحق بلبنان لن يفيد منه اللبنانيون في مطلق الاحوال، لكنه يخدم ارييل شارون وخططه المبنية على ضرورة تشجيع قوى التطرف في المنطقة وضرب قوى الاعتدال فيها.

إن لارييل شارون مصلحة في استثارة قوى التطرف العربي في كل من لبنان وسوريا والعراق، بالاضافة الى قوى التطرف الفلسطيني، تماما مثلما لديه مصلحة في استثارة حزب الله وايران، فيروي غليله من بحر التطرف ويتغذى منه، ويتعمد التلاعب به واستخدامه.

ولا يقدر ارييل شارون ان يعيش في سماء الاعتدال الذي يعني في المحصلة نهايته. وهو يعمل جاهدا على سد النوافذ التي يمكن للاعتدال الغربي وخصوصا الاعتدال الاسرائيلي ان يتسرب منها، ولا يقبل في الوقت نفسه ان يسود الاعتدال الفلسطيني والعربي خشية ان يقوى الاعتدال الاسرائيلي.

ويتمنى رئىس الحكومة الاسرائيلية في قرارة نفسه ان يجرّ سوريا والعراق وايران وحزب الله الى حرب شاملة، ولا يبقى عالقا في الرمال المتحركة الفلسطينية. وكلما كانت الحرب في المنطقة اوسع، كلما كان السلم ابعد، وكلما كان ارييل شارون اقدر على اسقاط قوى الاعتدال في اسرائيل والعالم العربي على حد سواء.

وخلافا لما يعتقده البعض، فإن مشكلة ارييل شارون هي مع قوى الاعتدال العربي، وليس مع قوى التطرف العربي. وتبدأ مشكلته حين تنجح قوى الاعتدال العربي في لجم قوى التطرف العربي، لا سيما ان لقوى الاعتدال العربي تأثيرا ايجابيا في عواصم القرار الدولي، بينما لقوى التطرف العربي تأثيرها السلبي فيها.

وما يهم ارييل شارون ان تبقى مواجهته محصورة بالتطرف العربي، فيتغذى منه، ويطيل أمد بقائه على رأس حكومة التشدد الوطني في اسرائىل: خيارات السلام قد تقوضها، اما خيارات الحرب فتطيل بعمرها.

وبقدر ما تملك قوى التطرف الاسرائيلي قدرة على المبادرة، فإن قوى التطرف العربي محشورة في زاوية ضيقة، فهي محكومة من جهة بمراعاة مصالح قوى الاعتدال العربي، ومحكومة من جهة أخرى بمستلزمات المواجهة التي تفرضها عليها خطط ارييل شارون العسكرية.

لقد نجحت قوى التطرف العربي، حتى الآن، في التوفيق بين الأمرين، لكن مراعاتها لمصالح قوى الاعتدال العربي لها حدود، في حين ان مواجهتها لخطط ارييل شارون لا حدود لها. واذا لم تكن حدود لخطط ارييل شارون، فلا يسعها هي ان تضع حدودا لخطط مواجهته.

إن المواجهة بين قوى التطرف العربي وقوى التطرف الاسرائيلي بلغت نقطة اللارجوع ولم يعد يحدّها حد، وهي مفتوحة على كل الاحتمالات وتنذر بوقوع مواجهات جديدة قد لا تعود تنفع معها تدخلات القوى المعتدلة.

وفي خضم هذه المواجهات، يتعين على القوى اللبنانية ان تحافظ على تضامنها ضد اسرائيل، وتحجم عن اختلاق المواجهات الداخلية فيما بينها. كما ينبغي ان يحافظ الشارعان العربي والاسلامي على تطرفهما ضد اسرائيل، ويحجما عن اختلاق المواجهات بينهما وبين الانظمة العربية والاسلامية.

والاهم الاهم هو ألا تيأس قوى الاعتدال من محاولاتها الرامية الى تغليب منطق الاعتدال على منطق التطرف في المنطقة، فمنطق التطرف يمدّ ارييل شارون بالقوة ويقضي على احتمالات السلام، بينما منطق الاعتدال يقضي على ارييل شارون ويحمي حظوظ التسوية السلمية.