سقوط كوفي عنان

TT

ليس يُدرى: بأي رؤية سياسية، وبأي مقتضى من مقتضيات المصلحة القومية: تعجل مؤتمر القمة العربي في عمان، بالموافقة على (التجديد) لكوفي عنان: أمينا عاما للأمم المتحدة.

فمن الواضح: ان مجمل مواقفه لا تخدم المصلحة العربية الاسلامية: مواقفه تجاه القضية الفلسطينية.. والصراع العربي الصهيوني بصورة عامة.. ومؤتمر ديربان الذي انعقد بجنوب افريقيا في اوائل اغسطس، ومطالع سبتمبر 2001. بل ان له موقفا نشازا تجاه (السيادة الوطنية) للدول. فهو القائل: «ان السيادة الوطنية بمفهومها الراهن لم تعد صالحة لهذا العصر»!!.. ومن المقطوع به: أنه غير مفوض لأن يقول هذا الكلام الرعيب الرهيب: المهدد لسيادات الدول، المارق من القانون الدولي، الناقض لميثاق الامم المتحدة نفسه. نعم. ان موقفه هذا (يؤصل) توجهات معروفة تسعى لالغاء الخصوصيات والسيادات في هذا العالم: توطئة للتدخلات، وتبديل الأنظمة والحكام. لكن المعروف ـ على نطاق عالمي، ووفق اوراق التعيين والمرتبات ـ: ان السكرتير العام للأمم المتحدة (موظف عالمي)، وليس موظفا عند دولة معينة.

يوم الخميس 1/8/2002، نشر تقريرا (عما جرى في جنين) الفلسطينية ولم نكن نتوقع النزاهة والانصاف، بعد تخاذل الرجل وضعفه امام الضغط (الامريكائيلي). فقد وافق مجلس الأمن بالاجماع على ارسال لجنة أممية لتقصي الحقائق في جنين.. وعلى الرغم من اللطف في هذه الصيغة في اللجان، اذ الاصل تأليف (لجان تحقيق)، فان الفلسطينيين وافقوا على هذه الصيغة الملطفة. ثم وافقت اسرائيل عليها. ثم نكست على رأسها واشترطت شروطا من بينها: إضافة اسم خبير عسكري الى اللجنة.. وعدم تقديم عسكريين للمحاكمة.. ثم سحبت موافقتها.

وفي انكسار بالغ لا يشرف البشر الذين يمثلهم، اعلن كوفي عنان الغاء لجنة تقصي الحقائق.

لم نكن نتوقع النزاهة والانصاف والحالة هذه، ولكنا لم نكن نتصور ان (الضمير قد مات) موتا حقيقيا.. فالنقطتان الجوهريتان في تقرير كوفي عنان هم: أ ـ براءة الجيش الاسرائيلي من تهمة ارتكاب مذبحة. ب ـ المصادر التي استقى منها التقرير معلوماته ورؤيته.. اما براءة الجيش الاسرائيلي من مذبحة جنين، فهي (رواية اسرائيلية) 100%. فمنذ ان وقعت المذبحة، اخذ الاعلام الصهيوني: العسكري والسياسي يكثف بثه وينوعه من اجل تبرئة الجيش الصهيوني مما اقترفت يداه في جنين.. اذن.. تمثلت وظيفة كوفي عنان ومهمته في وضع (ختم دولي عام) على تقرير او رواية اسرائىلية: قصة وسيناريو وإخراجاً.. وأما بالنسبة لمصادر معلومات التقرير فقد حددها كوفي عنان بقوله: «لم يكن التقرير نتيجة تحقيق ميداني، لكنه يستند الى معلومات متوافرة في المجال العام».

اي ضمير.. أية مسؤولية.. اي احترام لعقل الانسانية يمثُل في هذا الكلام؟.. ليس هناك ذرة من ضمير، ولا ذرة من مسؤولية، ولا ذرة من احترام العقل الانساني.. يُضم الى ذلك: ان في هذا التصريح او الموقف: التواء ومخاتلة.. فهناك (معلومات عامة) اقوى وأصدق وأقرب الى الامم المتحدة، من تلك التي اعتمد عليها تقرير الامين «!!» العام.. فقد قالت (ماري روبنسون) ـ رئيسة المفوضية العليا لحقوق الانسان في الامم المتحدة ـ: معلقة بقولها هذا على تقرير نشرته منظمة حقوق الانسان الامريكية .. قالت: «لدينا تقرير يتمتع بالمصداقية لمنظمة مراقبة حقوق الانسان يثير قلقاً فيما يتعلق بانتهاكات القانون الانساني واستخدام القوة غير المناسب ضد السكان المدنيين في مخيم جنين».. وكانت هذه المنظمة قد اصدرت تقريرا قالت فيه: «ان هناك دلائل توحي بأن قوات الاحتلال ارتكبت جرائم حرب خلال الحملة العسكرية التي قامت بها في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، وذلك في اعقاب تحقيقات استغرقت اسبوعا اجراها فريق تابع للمنظمة في المخيم.. وقال (بيت بوكارت) ـ وهو احد كبار الباحثين في المنظمة وعضو فريق التحقيق: «ان الانتهاكات التي وثقناها في جنين بالغة الخطورة، ويبدو انها تصل في بعض الحالات الى حد جرائم الحرب. ومن الضروري اجراء تحقيقات جنائية لتحديد المسؤولية الفردية عن اخطر الانتهاكات.. ومن الواضح ان احداث جنين تستدعي اجراء المزيد من التحقيقات». وهل اطلع السكرتير العام، في سياق اعتماده على (المعلومات العامة!!)، على ما قاله الرئيس الامريكي الاسبق (جيمي كارتر) في هذا الموضوع، اذ قال: «ان اسرائيل قامت بتدمير مخيم جنين. وعلى الولايات المتحدة ان تذكر اسرائيل بأن استخدام الاسلحة الامريكية يكون للدفاع فقط. وهذا ما جرت مخالفته في تدمير مخيم جنين»؟ ـ هل اطلع على مثل هذه الشهادات؟.. من المرجح، وحتى لو سلمنا بسذاجة الاعتماد على المعلومات العامة، في مثل هذه القضايا، فانه قد جرى (انتقاء) سياسي ومنحاز وعديم الضمير للمعلومات.. اننا نواجه حالة اسوأ بكثير من تلك التي وصفها (فرانسوا تريننجيه) ـ في كتابه: هل الأمم المتحدة أكذوبة ـ حيث قال: «ها نحن نعيش مع كوفي عنان الذي يرفع شعار: (يكفي شرف المحاولة) فهو يحرص على ان (يقترح)، او (يبحث)، او (يشدد) وحسبه ان يصدر ذلك في بيانات لكي يعرفها الناس. اما النتائج فلا يشغل نفسه بها لا من قريب ولا من بعيد. وكلنا يذكر ان الأمم المتحدة لم تتحرك في رواندا الا بعد ان بلغ عدد الضحايا اكثر من نصف مليون، ولا في سربرنيتشا الا بعد ان بلغ عددهم 800 الف. ولم يكن لكوفي عنان من دور سوى تقديم اسفه واعتذاره».. نحن في حالة اسوأ من هذه، لأن السكرتير في سياق التدني المتتابع لأدائه: اصبح يوفر (غطاء أمميا) لجرائم الصهيونية.

بدهي ان تفرح اسرائيل بتقرير عنان وتزغرد له، فهو صياغة ـ باسم الأمم المتحدة ـ للرواية الصهيونية عن مأساة جنين. وهو تقرير ـ من جانب آخر ـ يندغم في صميم الاستراتيجية الصهيونية التي تنزع أبدا الى (التعتيم الاعلامي والتاريخي) على الجرائم الصهيونية. وهو تعتيم يبتغي تدمير الذاكرة الانسانية، ومحو ملفات الخزي الصهيوني من شاشاتها. وهذه ـ في ذاتها ـ جريمة اخرى، فان (نسيان الكوارث) او انساءها ذريعة الى الوقوع فيها من جديد في المقابل. ولا ينبغي ان ينبعث متنطع سياسي او ثقافي او اعلامي فيعظنا بأن (تذكّر الكوارث) او تثبيت الذاكرة على الجرائم المروعة ـ التي يقترفها اشرار البشر ـ: سلوك يعكر اجواء السلام. فعلى افتراض ان سلاما عادلا قد يحل، فان السلام لا يعني الغاء الذاكرة. مثلا: الكيان الصهيوني، في حالة سلام ـ الآن ـ مع المانيا، ومع ذلك، لم ينس هذا الكيان: المحرقة او الهلوكوست.. ومن المقدر، بل من المقرر: ان تعمل دوائر امريكية عديدة على (تركيز ذاكرة الأجيال الامريكية) على ما حدث للولايات المتحدة في 11 سبتمبر (ايلول) 2001.

ان السؤال الدقيق الذي ينبغي ان يجيب عنه كوفي عنان بدقة وامانة هو: لو لم تكن هناك مذبحة، في جنين، لماذا اصرت اسرائيل على الغاء لجنة تقصي الحقائق؟.. ولماذا سارع السكرتير العام في هواها وحقق لها ما تهوى؟.. لو كانت المؤسسة الصهيونية بريئة من المذبحة ـ كما افترى التقرير الزور ـ لماذا خافت من نتائج التقصي، ولماذا بذلت جهودا ضخمة من اجل قتل اللجنة؟.. هل هناك بريء واثق من نفسه يخاف من الحقائق خوف المجرم من حبل المشنقة؟

قد يقال: ان الضغط (عمودي) وثقيل على الرجل.. والخيار النزيه الأمين في هذه الحال هو: ان يرحل.. فهذا اكرم له وأشرف للبشرية التي يمثلها، واحفظ لسمعة المنظمة الدولية.

نحن من المقتنعين ـ الى درجة اليقين ـ بـ(جدوى النظام) على المستويات: الوطنية والاقليمية والدولية. فبشرية ناقص نظام، انما هي في حقيقة الامر: قطعان من الوحوش: المتلمظ بعضها على بعض، في غابة، قوامها وسيدها: النهش والافتراس والولوغ الدائم في الدم. ولكن اذا استخدم النظام الدولي: سوغا وغطاء للغبن والظلم والجريمة، فان فوضى عامة طامة ستسود العالم الانساني.. برهان ذلك: ان النظام الدولي السابق للحرب العالمية الاولى قد اصيب بعاهات الظلم والبغي.. والاستهتار بالروابط الاخلاقية وبالاعراف والقوانين الدولية.. والتواطؤ على هذه الرزايا.. ومن ثم نشأت في اعقاب تلك الحرب (عصبة الأمم)، فتكرر في ظلها ما كان قبلها من فوضى واستهتار. ولذا ماتت عصبة الامم عام 1939. وبموتها اندلعت الحرب العالمية الثانية، ومن هنا نشأت في اعقاب هذه الحرب: الهيئة العامة للأمم المتحدة.. وفي عهد كوفي عنان ـ بخاصة ـ تجمعت من جديد عاهات الظلم والغبن والاستغلال والاستهتار والتستر المبرمج على جرائم ضد الانسانية. فهل انتخب كوفي عنان من اجل هذا؟