نعم... نعم... يا عالم نحن غزلان!!

TT

باعتبار ان شر البلية ما يضحك ...تذكّرت خلال الاسبوع المنصرم طرفة قديمة تنطبق على 90% من الانظمة «الامنية» في الوطن العربي.

تقول الطرفة ان عاملاً في احدى حدائق الحيوانات بإحدى المدن العربية اغفل إغلاق باب قفص الغزلان فهرب عدد منها. وفور اكتشاف ما حصل صدرت الاوامر بالتفتيش عن الغزلان الهاربة وإعادتها الى الحديقة. وما هي الا بضع ساعات حتى شوهد احد رجال الأمن ممسكاً بأرنب مسكين ومهدداً اياه بعصا غليظة وهو يزمجر «اعترف... اعترف... بأنك غزال!!».

ما ذكّرني بهذه الطرفة الجارحة هو التقارير المتراكمة في الاسبوع المنصرم وسابقه عن حرص الادارة الاميركية الحالية على شرح مواقفها للعالمين العربي والاسلامي، ومن بعدهما العالم بأسره، الى حقيقة حربها على «الإرهاب». والى إفهام شعوب الارض ان هناك سوء فهم للمقاصد الاميركية، وطبعاً إقناع المواطن الأميركي «بسلامة» سياسة حكومته الخارجية، وبالذات ان ما حدث يوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي لا علاقة له البتة بسياسات اميركية تعتبرها بعض الجهات (المعتدلة والمتطرفة) معادية لها.

والواقع ان إدارة الرئيس جورج ووكر بوش تلقت خلال الاشهر القليلة الماضية نصائح من عدة جهات سياسية وإعلامية اميركية بضرورة شن حرب إعلامية ذكية تواكب حربها العسكرية والاستخباراتية ضد «الإرهاب». وكل من درس فنون الإعلام والدعاية وأحاط بشيء من علم النفس يفهم القدرة الهائلة لـ«البروباغاندا» في التأثير على الناس. وفي التاريخ الحديث أنشأ الزعيم الالماني النازي ادولف هتلر لـ«البروباغاندا» وزارة قائمة بحد ذاتها تولاها جوزيف غوبلز. وبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها واندلعت الحرب الباردة بين الشرق والغرب لعبت "إذاعة اوروبا الحرة" العاملة تحت رعاية الاستخبارات الاميركية دوراً حيوياً في الايحاء والتحريض والحرب الاعلامية «التلميعية» و«التشويهية» في مواجهة دول الكتلة الشيوعية. كما أسست حكومات دول عدة إذاعات بلغات اجنبية مخصصة للخارج. وحالياً ترعى الاستخبارات الاميركية حسب علمي إذاعة ناشطة في العاصمة التشيكية براغ لكنها موجهة الآن الى مناطق اخرى من العالم. غير ان المثير للاهتمام اليوم تلك النقلة النوعية المباشرة بالنسبة للخطاب الاعلامي الاميركي الحكومي إزاء العالمين العربي والاسلامي، والعلنية «الصريحة جداً» خلف تأسيس إذاعة وفي ما بعد محطة تلفزيون ـ على ما أظن ـ موجهين خصيصاً الى العالمين العربي والاسلامي. وطبعاً تكتسب هذه النقلة حساسية إضافية كونها تأتي زمنياً بعد احداث 11 سبتمبر، ووسط احتدام «الانتفاضة» الفلسطينية المحاصرة إسرائيلياً واميركياً، واستشرافاً للغزو المزمع للعراق... وضرب اي قوة اقليمية تقرّر واشنطن ـ بوش وضعها على قائمة «المغضوب عليهم».

وبهذا الخصوص، في عدد يوم 21 يوليو (تموز) من «الشرق الأوسط»، تحدّث مستشار مجلس إذاعة «سوا» (الاميركية) ومدير القسم الاخباري فيها، فقال «لم تنشأ المحطة من منطلق تحسين الصورة، بل ايجاد صورة غير مشوشة وتعكس الحقيقة». ثم اردف «برأيي ليس من واجب الولايات المتحدة الاميركية، خصوصاً بعد احداث 11 سبتمبر، ان تبادر هي الى تحسين صورتها، او ان تعتذر من اي شخص، في ظل قتل المدنيين الابرياء في نيويورك ...». الى ان يقول «اول عرف في الدستور الاميركي في ما يتعلق بقوانين البلاد، حرية التعبير في الإعلام، والكونغرس الذي يموّل هذا المشروع ومسؤوليته الاساسية ان يشرف ويراقب تطبيق الدستور ...لا يمكنه الا ان يكون حراً. والولايات المتحدة معروفة بعراقتها الديمقراطية ...آخر ما اتوقعه منها كبت الحريات الاعلامية. فكيف إذا كانت الاذاعة مموّلة من الكونغرس، حامي الدستور الذي ينص بمادته الاولى على حرية التعبير...».

وبعد عشرة ايام تطرّق تعليق في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الاميركية الى تأسيس هذه الاذاعة. ومما ورد في التعليق ان المواطنين الاميركيين تساءلوا بعد 11 سبتمبر «لماذا يكرهوننا (والمقصود هنا العرب والمسلمون)؟»... اما الآن فثمة ميل الى التساؤل «كيف نستطيع ان نجعلهم يحبوننا؟». ومن هنا تقرّر استهداف «اولئك» Them الذين يكرهون الولايات المتحدة لسبب أو لآخر في منطقة الشرق الاوسط، والجهات التي تقدم إما المال او المجندين او التأييد بصفة عامة للجماعات «الإرهابية» مثل «القاعدة». ويتابع التعليق انه بعدما جرت العادة على اعتبار الحرب «دبلوماسية تخاض بسلاح مختلف» باتت الدبلوماسية «حرباً تخاض بسلاح مختلف»... وهناك تقرير من "مجلس العلاقات الخارجية" الاميركي يحث على جعل الدبلوماسية عنصراً مركزياً في صياغة السياسة الخارجية بحيث «تسهّل على حلفائنا تأييدنا... وتجعل «الإرهاب» أقل جذباً». بيد ان التقرير يلحظ، استناداً الى خصوم الولايات المتحدة، ان هذه الدبلوماسية تستوجب تغيير بعض السياسات لضمان الحصول على مزيد من الدعم الدولي للحملة ضد «الإرهاب».

كلام جميل ومشجع... ولكن لماذا تزعج الادارة الاميركية خاطرها بالاستماع الى آراء خصومها؟

لماذا لا تبدأ بالاصغاء الى اصدقائها الذين كلّت ألسنتهم وهم يستجدونها دقيقة واحدة من الإصغاء؟

ألم تستخف الادارة، «صقورها» و«حمائمها»، بدعوات الاصدقاء لها الى تعريف «الإرهاب» قبل زجّ الناس جميعاً في خندق واحد؟ ألم تستهزئ بنصائح الاصدقاء والحلفاء عندما قالوا لها ان لغة التطرّف في العالمين العربي والاسلامي تتعزّز اليوم لأن السياسة الاميركية صارخة في انحيازها في الموضوع الفلسطيني - الاسرائيلي ومتعنتة جداً في الموضوع العراقي؟ ألم تشح بوجهها عندما صارحها الاصدقاء بأن احداً لا يتلذذ بتفجير نفسه ...بل ان ما يدفعه الى ذلك هو اليأس من كل يراه حوله من قمع وإذلال؟

الادارة الاميركية الحالية تريد من الجميع ان يؤيدها وان يحبها، لكنها لا تحترم احداً ولا تريد الاصغاء لأحد ولا تبدي اكتراثاً بأحد. وهذه حالة باتت تقلق معظم دول العالم وليس العرب والمسلمين فحسب. فحتى الحلفاء القدامى في اوروبا الغربية، الذين قاتلوا مع اميركا جنباً الى جنب ضد النازية ووقفوا معها متحدين المجابهة النووية ضد الاتحاد السوفياتي السابق،... مهمّشون لا اعتبار لهم ولا كلمة. وما سمعته وسمعه معي قبل ايام مشاهدو التلفزيون البريطاني من كلام على لسان السناتور ريتشارد شيلبي ـ وهو عضو لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ ـ دليل مؤسف على أسوأ امراض «الأحادية».

كان شيلبي يتكلم عن اعتزام الولايات المتحدة ضرب العراق سواء توفر لها الدليل على تطويره اسلحة دمار شامل ام لم يتوفر. ولما سأله المذيع البريطاني مستغرباً لهجته المتغطرسة والازدرائية «إذا كنت عضواً في لجنة الاستخبارات ولا تملك دليلاً قاطعاً (على تطوير اسلحة الدمار) فكيف تتوقع من الحلفاء تأييدكم؟ كرّر شيلبي موقفه وكأنه احد ديكتاتورات جمهورية من «جمهوريات الموز» فقال ما معناه ان واشنطن اتخذت قرارها وانتهى الأمر لأنها لا تريد بقاء ذلك النظام.. وهي ماضية قدماً في ضربه يدعمها الشعب الاميركي! وفوراً ادرك المذيع البريطاني وضيفه في الاستوديو النائب مينيس كامبل، مسؤول الشؤون الخارجية في حزب الديمقراطيين الاحرار، المعنى المهذب لهذه الكلمات. وهي ان واشنطن لا تقيم وزناً لأحد ولا تكترث بأحد ولا يهمّها لا الأمم المتحدة ولا القانون الدولي، وهي حرّة في ما ترتأيه وتفعله رغم انف كل من تسوّل له نفسه الاعتراض!! وهذه الحقيقة بات يعرفها ايضاً اكثر من مئة نائب في مجلس العموم البريطاني ومئات النواب في الجمعية الوطنية الفرنسية والبوندستاغ الالماني وعموم برلمانات اوروبا شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.

ويعرفها ايضاً الملك عبد الله الثاني ملك الاردن، الذي وفّق في تجاوز لباقات الدبلوماسية، معلناً بصراحة امام الرأي العام البريطاني خلال الاسبوع الماضي ما يقوله معظم القادة العرب في مجالسهم الخاصة، وهو ان سياسة واشنطن إزاء العراق في ظل استمرار موقفها مما يحصل في فلسطين ...سياسة «سخيفة». وهكذا، إذا اعتبرت واشنطن موقف ملك الاردن مشجعاً لـ«الأرهاب» او حليفاً لتنظيم «القاعدة» ... ستقنعنا بإذاعات او من دون إذاعات بأننا حقاً... «غزلان»!