إفشال الهجمة الأميركية ـ الإسرائيلية هو الانتصار

TT

الأوضاع خطيرة جدا، ليس في فلسطين فقط، وليس في الشرق الأوسط فقط، بل في كل انحاء العالم. لكن هذا التعميم يجب الا يقلل من حجم المخاطر وسرعة مداهمتها لمنطقة ما قبل منطقة اخرى. وبما ان الشرق الأوسط كان، منذ فترة طويلة، وما يزال، موضوع تسخين ومجالا رحبا للصراع وانبوب اختبار موازين القوى الدولية وحقل تجارب للأسلحة الحديثة (خارج نطاق اسلحة الدمار الشامل)، فإن للشرق الأوسط حصة كبيرة، لا بل قد تكون الحصة الأكبر من هذه المخاطر.

قلائل هم الاميركيون الذين يراقبون ويتابعون السياسة الخارجية لرئيسهم وحكومتهم عن كثب، واغلب الاميركيين يعتقدون ان هنالك فصلا، ميكانيكيا في اغلب الاحوال، بين سياسة ادارتهم الداخلية وسياستها الخارجية. وغالبية الاميركيين لا يتابعون الاخبار ولا يتأثرون الا بقوانين الضريبة والانتعاش الاقتصادي والنظام الصحي، وكأن الولايات المتحدة هي العالم (وان كانت جزءا منه، فهي لا تتأثر بما يجري في اجزائه الاخرى). وللأسف الشديد ان قناعات اغلبية الأميركيين لم تتغير على مدى عقود طويلة، بل بقيت على ما هي عليه، وهي ان الأمة الاميركية مكلفة مهمة إلهية من اجل تقدم البشر، وانه مهما فعلت حكوماتها المتعاقبة ومهما ارتكبت من اخطاء أو جرائم جماعية وجرائم بحق الانسانية، تبقى (أي الادارة) في خدمة المهمة الإلهية المنوطة بالأمة الاميركية. ولم يكتشف الاميركيون انهم ضحية هؤلاء السياسيين الذين لا يدخلون البيت الأبيض الا برضى وموافقة ودعم المجمعات الصناعية والاقتصادية الكبرى، التي تجني الارباح الطائلة من استغلال المواطنين الاميركيين اولا، ومن استغلال الشعوب الاخرى واراضيها وثرواتها الطبيعية سواء كانت زراعية أو معدنية أو بترولية، وتحويل تلك البلدان الى اسواق خاضعة لتحكم واستبداد الادارات الاميركية تحت يافطة مزركشة مثل الدفاع عن حقوق الانسان، الدفاع عن الديمقراطية، الدفاع عن العالم الحر.. الخ.

المواطن الاميركي يدفع ضرائبه بانتظام، ولا يسأل كيف تصرف تلك الضرائب. المواطن الاميركي يعلم ان هنالك مأوى في بلاده، وان هنالك ملايين يشكلون جيشا ضخما من العاطلين عن العمل، ويعلم ان الفساد المستشري بين اصحاب المليارات لا ضحية له سواهم، اي المواطنين الاميركيين ذوي الدخل المحدود، والذين يحاولون تأمين تقاعد مريح لانفسهم باستثمار اموال ضئيلة بشراء اسهم معدودة سرعان ما تبين انها تبخرت بسبب فساد الشركات الضخمة واصحاب المليارات الذين يدفعون الاموال لاختيار الرؤساء واعضاء الكونغرس في الولايات المتحدة. الرئيس بوش يتحدث عن فساد هنا وهناك في العالم، وعن ضرورة محاربته. لكننا نكتشف ان الفساد الكبير يعشش في البيت الابيض والشركات التي اوصلت المسؤولين اليه. (ملف شركة انرون ودور تشيني نائب الرئيس. ملفات شركات النفط في تكساس ودور الرئيس في الفساد. ملفات كبرى البنوك التي غطت ودعمت الفساد في الولايات المتحدة).

أما ملف سرقة الشعوب واحتلال اراضيها واضطهاد شعوبها وشن عمليات ارهاب ضدها وتوظيف الارهاب ضد من تسميهم الادارات اعداء اميركا، فيبقى ملفا صغيرا ضمن ملفات واشنطن.

وبالنسبة لهذه الادارة الاميركية الجديدة، التي يبدو انها غير قادرة على التعلم السريع (أو انها لا تريد ان تتعلم الحقائق) فإن ما يجري في الشرق الأوسط سواء ما يتصل منه بالعدوان الهمجي الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني أو ما تنوي هذه الادارة غير الناضجة ان ترتكبه ضد الشعب العراقي، اصبح على رأس جدول اعمالها الراهن. فمن ناحية تدعم شارون وجرائمه الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، ومن ناحية اخرى تعد العدة لضرب العراق تحت شعارات مختلفة يعرفها الجميع. ولأن هذه الادارة غضة فإن الشرق الأوسط مؤهل لأن يكون مقبرتها، وليس ميداناً تصول فيه وتجول، ذلك ان نحن احسنا التخطيط والتدبير.

الولايات المتحدة هي التي خلقت ودعمت ودربت طالبان والقاعدة، ولم يكن موضوع 11 سبتمبر الا المبرر. فأثناء حكم كلنتون بدأت الولايات المتحدة تتحرش بطالبان، والسبب هو نفط بحر قزوين، ومباحثات طالبان مع الصين لمد خط نفط وغاز من بحر قزوين ومن المخازن الجوفية الكبرى في افغانستان ذاتها، تستفيد منه الصين (كانت كلفته المقدرة 4.5 مليار دولار في مرحلته الأولى).

الولايات المتحدة سعت وتسعى للهيمنة على مصادر النفط كي تهيمن على العالم الذي يضم حلفاءها الاعزاء الاوروبيين وغيرهم. أما بالنسبة للعراق فإن الادارة الاميركية الراهنة، تريد كما ارادت ادارة ريغان وبوش الاب وادارة كلنتون من قبل ان تهيمن على نفط العراق. ولو وافق الرئيس صدام حسين على تمكين الولايات المتحدة من 85 في المائة من نفط العراق وصناعته، كما تريد الولايات المتحدة، لاعتبرته ديمقراطيا ومسالما ورجل دولة عظيما. اما وقد رفض هيمنتها على ثروات العراق، فقد حل عليه الغضب. فهم يفكرون ويخططون للسيطرة على بغداد وقتل صدام حسين، لأن بعض المعارضين من «نادي لندن» ابلغوا الاميركيين ان تاريخ العراق السياسي يقول ان من يحكم بغداد يحكم العراق، ولا شك في ان هذه الادارة التي تحكم الولايات المتحدة في زمن يتهاوى فيه اقتصادها وتفتح الادراج والخزائن لتفرغ آلاف المليارات من الولايات المتحدة خدمة للمجمعات الصناعية العسكرية، ولشركات التكنولوجيا ولأجهزة الأمن ومؤسسات كبت الحريات وضرب حقوق الانسان (داخل الولايات المتحدة وخارجها) تريد ان تعوض خسائرها بنهب ثروات البلدان والشعوب الاخرى (افغانستان، والعراق الآن ولاحقا ايران وغيرها).

ضمن هذه المعادلة الاميركية ماذا تريد الادارة من ياسر عرفات؟ فهو لا نفط لديه ولا كاز ولا غاز ولا ذهب ولا حتى ماء.

الأمر هنا يتعلق باسرائيل وشارون ودورهما في تحريك الكونغرس واحتمال تحريضهما الكونغرس ان اتخذت الادارة أي موقف معاد أو معارض او حتى منتقد ليس لاسرائيل فقط بل حتى مجرم الحرب شارون. فالرئيس ياسر عرفات يشكل الآن هدفا لجميع الاجهزة الصهيونية والاميركية الموالية لاسرائيل والمؤسسة الرئاسية الاميركية للتخلص منه أو إبعاده أو إقصائه عن موقع القرار او تحويله الى رمز لا حول ولا قوة له.

وهذا الهدف قد يكون ايضا معششا في رؤوس بعض الانظمة العربية. فهو الرقم الصعب، لأنه يمثل قضية شعب فلسطين العادلة وهو رمز نضاله، وهو الذي قاد لبر الامان عبر كل معارك التصفية التي شنت على الثورة الفلسطينية (من كل الجهات). وهو الذي قال لا للتنازل عن القدس الشريف، وهو الذي قال لا لضم اسرائيل لنسبة من ارض فلسطين التي احتلت عام 1967. لذلك يحاولون الصاق تهمة الارهاب به. وكأن مخطط شارون من وراء هذه الحملة ان يوضع اسم ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية و«فتح» على لائحة الارهاب، فيصبحون مطلوبين، وتجمد حساباتهم واموالهم (كما فعلت اسرائيل بأموال الشعب الفلسطيني قرصنة) وبعدها يسهل القضاء على القضية برمتها. القضية عنوانها ياسر عرفات، والقضاء عليه قضاء عليها، هكذا قال الجنرال يعلون الذي اصبح الآن رئيس اركان جيش الحرب الاسرائيلي. وهكذا قال موفاز قبله. والفقراء فكرا ومعرفة انساقوا خلف هذا الكلام تحت يافطة بوش الديمقراطية. يريد بوش ان يستخدم الكونغرس اللوبي اليهودي والجمعيات اليهودية لدعم مشاريع القوانين التي تقدمها للكونغرس وليدخل البيت الابيض مرة اخرى لمدة ولاية ثانية، وهذا سبب الموقف الذي تتخذه الادارة (والبيت الابيض تحديدا) تجاه ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية. انه يصب في ارضاء اصحاب النفوذ في واشنطن والمؤثرين على القرار كي يدعموا بوش. الموضوع ليس ديمقراطية، فكلام بوش في 24 حزيران الماضي هو قمة الفاشية والانقلابية. فقد هدد الفلسطينيين ان هم انتخبوا ياسر عرفات بأن يلغي املهم في حقهم الطبيعي والشرعي بتقرير المصير واقامة دولتهم المستقلة.

ان ما يقرره بوش وشارون ليس قدرا لأمتنا، ونحن نعلم ان ميزان القوى مختل اختلالا باهظ التكاليف، لكن الحرب خدعة.

وانتصار الشعوب لا يأتي الا بتفويت الفرصة على القوى العاتية الظالمة ومنعها من تحقيق اهدافها، وبتفويت الفرصة عليها بالمناورة السياسية الذكية التي تهشم كل طرح سياسي تستند اليه هذه القوى لشن حملاتها العسكرية، هكذا هو الأمر بالنسبة للفلسطينيين، وبين افشال اهدافهم العسكرية والسياسية يمتد جسر الصمود والمقاومة.