صيف باريسي بلا فرنسيين

TT

باريس في بداية الصيف عاصمة حقيقية للعالم، غاب عنها الفرنسيون الى الشواطئ الداخلية واستقطبت جموعا غفيرة من كل الجنسيات، جذبتهم انوار مدينة الفن والأناقة والثقافة، في حين تردد عليها جمع كبير من الساسة وصناع القرار ورجال الاعلام والفكر، خصوصا من البلدان الافريقية والعربية ذات الصلة التاريخية بهذا البلد الذي لا يزال له تأثيره الهام في ـ الشأن الاستراتيجي الدولي.

وفي باريس قضيت اسبوعا حافلا بالاتصالات واللقاءات الفكرية المفيدة، وصرفت منها جزءا وافرا في المكتبات العديدة بشارع «سان ميشال»، حيث اتيحت لي فرصة الاطلاع على احدث الكتب التي صدرت في الأشهر الاخيرة حول مواضيع الساعة ومستجدات الفكر. وكنت قد وصلت «مدينة الأنوار» كما كان يدعوها طه حسين للمشاركة في المؤتمر العربي الاوروبي للحوار بين الثقافات، الذي نظمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بمقر معهد العالم العربي بمشاركة متميزة من عدد كبير من رجالات الفكر والرأي والسياسة من الوطن العربي ومن اوروبا. وقد ادار المؤتمر مدير عام المنظمة الدكتور المنجي بوسنينة بحكمته ولباقته المعروفتين، وتميز اللقاء بالجمع بين دقة وعمق البحوث العلمية وحيوية وطرافة الحوارات الفكرية ـ السياسية، وتمحور حول اشكالية «مرتكزات التعرف على الآخر من اجل التعايش معاً من منطلق التسامح بين الحضارات والأديان».

ومع ان الحوارات العربية ـ الأوروبية ليست بالجديدة، وقد شاركت بنفسي في العديد منها، الا ان مستجدات الوضع الاقليمي والدولي، وتداعيات احداث 11 سبتمبر 2001 والأزمة الفلسطينية المتفاقمة، قد اعطت للقاء باريس سمات مميزة خاصة، بدت واضحة من حوارات ومناقشات المؤتمر.

ولا شك ان الهموم الثلاثة الأساسية التي تسيطر على ارضية الحوار العربي ـ الاوروبي راهنا هي: الاختلالات والشوائب التي تطبع صورة العرب والثقافة العربية في الوعي والمخيال الاوروبيين، مقتضيات ادارة وضبط الرهانات الاستراتيجية الدولية في ظل الهيمنة الاحادية الاميركية، أطر بلورة المنظومة الثقافية والقيمية لعصر العولمة.

وقد كانت هذه المحاور حاضرة بقوة وكثافة في الأبحاث والدراسات التي قدمت للمؤتمر، بقدر ما كانت حاضرة بالوتيرة نفسها في منتديات الفكر والرأي، وفي حركة النشر والتأليف التي سجلت هذه السنة اهتماما غير مسبوق بالثقافة العربية وبموضوعات الحضارة الاسلامية واوضاع المجتمع العربي.

بخصوص المحور الاول، لا مناص من الاقرار بأن صورة العربي والمسلم قد تعرضت لهزة عنيفة بعد احداث 11 سبتمبر الماضي التي زادت من سلبية وقتامة هذه الصورة، بحيث ان العنصر الجديد في المسألة هو تركز الحملة الشرسة التي استهدفت في الاشهر الاخيرة الثقافة العربية الاسلامية على المنظومة القيمية والارضية العقدية، والبحث عن جذور الارهاب والتطرف في اصول الدين نفسه والقاعدة الفكرية والقيمية البعيدة، بدلاً من رصد العوامل السوسيولوجية والظرفية لظاهرة الغلو والتطرف، كما كان النهج المتبع في الدراسات السابقة.

وقد قدم الاعلامي الفرنسي المرموق «أرفيه بورج» قراءة نقدية معمقة لعناصر هذه الصورة السلبية المشوهة في المؤتمر، كملها زميلنا محيي الدين اللاذقاني بقراءة تماثلها في الطرافة والعمق. ومن المفارقات المثيرة، ان الكتاب الذي سجل اعلى رقم في المبيعات هذا الصيف في باريس هو كتاب الصحفية الايطالية اوريانا فالاشي الصادر مؤخراً بعنوان «الشرف والغضب» وقد بيع منه اكثر من مليون نسخة في الاسابيع الاولى، على رغم كونه مجرد سيل من عبارات الحقد والسب والاحكام العنصرية البغيضة، التي يبدو انها لقيت قبولا واستحسانا في شارع ما زال مذهولا بأحداث الزلزال الاميركي وآليات اخراجه من لدن لوبيات الاعلام القريب من الاوساط المعادية للعرب.

وان كان لا بد من الاشارة هنا الى اعادة نشر مجموعة من اهم اعمال المستشرقين الفرنسيين المتميزين الذين عرفوا بنظرتهم المنصفة للعرب والاسلام ومنهم على الخصوص جاك بيرك وماسينيون ورنيه غنون... ولا شك ان انتشارها ونشرها يساعد في تصحيح هذه الصورة المشوهة التي نفذت للأوساط الفكرية والجامعية الرصينة.

اما المحور الثاني فقد برز واضحا من خلال الحوار المتشعب والثري حول الاوضاع الدولية الراهنة والخارطة الاستراتيجية العالمية، وفي قلبها القضايا العربية المتفجرة مثل الشأن الفلسطيني والأزمة العراقية.

ومع ان مؤتمر الألكسو خصص للقضايا الثقافية، الا ان الاشكالات الاستراتيجية لم تغب عنه، بحكم حضور سياسيين متميزين من نوع رئيس البرلمان الفرنسي السابق فيليب سيغان ووزير الدفاع الأسبق آلان جوكس الذي اصدر مؤخرا كتابا هاما بعنوان «امبراطورية الخواء» يحلل فيه اثر احداث 11 سبتمبر على المعادلة الاميركية في ابعادها الداخلية والدولية (ولنا اليه عودة)، فضلا عن جمع من السياسيين العرب المرموقين.

ولقد بدا من الواضح ان الاوروبيين والعرب متفقون حول ضرورة البحث عن خطوط توازن في الخارطة الاستراتيجية الدولية من شأنها ضمان الحد من اتجاه الهيمنة الاميركية الذي تجاوز الخطوط الحمراء، وقد غدا يتجسد في مواقف انفرادية لا يخفي الاوروبيون امتعاضهم منها. وبطبيعة الامر، على رأس هذه المواقف الانفرادية الدعم المطلق الذي تقدمه ادارة الرئيس بوش لنهج رئيس الحكومة الاسرائيلي المتطرف، والحرب المعلنة على العراق من خارج مظلة الشرعية والمؤسسات الدولية.

اما الموضوع الثقافي والقيمي فقد شكل اضافة نوعية لحوارات الالكسو في باريس، التي شارك فيها بعض ابرز الوجوه الفلسفية الاوروبية مثل الفيلسوف الفرنسي ادغار مورين، الذي اصدر مؤخرا كتابا مثيرا بعنوان «الهوية الانسانية»، والفيلسوف الالماني جوزيف شيفرت. وقد خلصت مختلف الورقات المقدمة في هذا الحوار الى تبني مقاربة منفتحة وثرية لمفهوم الهوية الحضارية، من خلال استيعاب مزدوج لحق الاختلاف ومقتضيات الكونية، مع التنبيه الى ان الفضاءين الحضاريين العربي والاوروبي هما من ابدع مفهوم الكونية من منطلق قيمي انساني سمح، يجب الذود عنه في مواجهة قولبة عدوانية شمولية، تفرض احيانا باسم المنطق الاقتصادي، وتملى احيانا اخرى باسم الشرعية والقيم الانسانية.