أفغنة العراق في الخطط العسكرية الأميركية

TT

التسريبات الاعلامية الاخيرة بشأن الخطط العسكرية الامريكية الخاصة باجتياح العراق ، والدعم اللوجيستي المتوافر لها في المنطقة، اشعلت السجال مجددا، وافضت الى استعارات لنموذج الحرب الامريكية على افغانستان، اذ وصف الدور الاردني المفترض فيها شبيها بدور باكستان. فيما اطلقت ايحاءات بان الدور الذي يمكن ان تقوم به بعض فصائل «المعارضة العراقية» شبيه بدور تحالف الشمال الافغاني للاطاحة بالنظام السياسي في بغداد. فهل هذا يشي بأن ثمة اختراقا استطاعت ان تحققه الولايات المتحدة لتغيير بعض مواقف دول المنطقة؟ وبالتالي اصبحنا على مقربة من مشهد الحرب الامريكية الساعية لأفغنة المنطقة بأسرها ابتداء من العراق؟ كل الاحتمالات واردة. ولكن بداية، علينا ان نلحظ ان تصاعد وتيرة التسريبات الاعلامية الغربية بهذا الشأن، جاء بعد ان تصاعدت الخسائر البشرية بين صفوف القوات الغربية في افغانستان، حتى اضطرت كل من بريطانيا وكندا الى الاعلان عن سحب قواتهما منها، كما قلصت امريكا نفسها عدد قواتها هناك بعد ان تزايدت خسائرها. ويأتي ذلك وسط تأكيدات من ان اسامة بن لادن وقيادة القاعدة وزعيم طالبان ما زالوا احياء، وان ثمة احتمالات قائمة من انهم يعكفون على الاعداد لشن هجمات انتقامية في داخل امريكا، او على المصالح الامريكية في الخارج، ما يعزز الاعتقاد بان الحرب الامريكية على افغانستان كانت بلا نصر. فمعلوم، حتى الان، ان هدف الحرب الاولى المعلن لها (القاء القبض على بن لادن «حيا او ميتا» كما اعلن الرئيس الامريكي في بداية تلك الحرب) لم يتحقق. وهذا ما القى شكوكا على انجازات واشنطن العسكرية في افغانستان. على أية حال، لا يبدو ان ذلك انعكس سلبا على شعبية الرئيس بوش، ولكن من الواضح ان ثقة الامريكيين به وبنائبه ديك تشيني، اهتزت بعد ان طالت فضائح الفساد المالي الرجلين. وبالتالي، فان من غير المستبعد ان تكون لتطورات الحرب في افغانستان و لروائح الفضائح المالية انعكاساتها على تصاعد وتيرة التسريبات الاعلامية بشأن اقتراب توقيت الغزو العسكري للعراق. ومن المتوقع ان تؤثر التطورات اللاحقة على هذين الصعيدين على تنفيذ الخطط المبيتة لمهاجمة العراق. حتى الآن، يبدو واضحا ان الدول العربية بأسرها، دون استثناء الاردن، او ايران، وحتى تركيا، ما زالت ثابتة على مواقفها في ممانعة التهديدات الامريكية للعراق، وتاليا رفضها في ان تكون اراضيها منطلقا لشن عمليات الغزو والعدوان على العراق. والثبات في المواقف لا تعكسه فقط التصريحات المعلنة للحكومات وما يصدر من سياسات فيها، وانما ايضا قناعتها من ان تداعيات تلك الحرب ستشمل بنتائجها الوخيمة المنطقة باسرها.

اكثر من ذلك، ان هناك ادراكا ثابتا بأن العراق ليس افغانستان، واذا كانت امريكا حققت، في احسن الاحوال، نصرا ناقصا في افغانستان، فانها من المستبعد ان تحقق ما تعد به في العراق. وهذه القناعة موجودة ليس فقط لدى دول المنطقة وقياداتها، وانما ايضا لدى قطاع واسع من العسكريين الامريكيين، الذين ابرزوا هذه القناعة عندما اوصوا قيادتهم السياسية بضرورة تأجيل الهجوم على العراق، وحتى تفضيلهم الغاءه كليا. كما ان الوقائع على الارض وكذلك التجربة، تجلي هذه القناعة وتعززها. فالعسكريون الامريكيون اكثر دراية من غيرهم في ما يتعلق ببعض الوقائع، وبحسب مقال نشر في (الفورن افيرز ـ عدد مارس / ابريل 2002) لـ «كينيث بولاك» ـ الذي عمل مديرا لشؤون منطقة الخليج للفترة من 1999 لغاية 2001 ـ انه في عام 1991، شنت قوات التحالف (110000) غارة ضد العراق في مقابل (6500) غارة تعرضت لها افغانستان سقطت بعدها طالبان عن الحكم، كما ضربت وحدات الحرس الجمهوري العراقي باكثر من (1000) غارة لكل وحدة منها، وحسب تأكيد بولاك فإن عدد الذخائر الموجهة بدقة كانت بمعدل 3 الى 1 في العراق مقارنة بافغانستان، كما تم تحطيم (1500) عجلة عسكرية عراقية بمحتوياتها بضربات جوية. وبعد ان يعقد مقارنة بين قوات طالبان والقوات العراقية من حيث الحجم والتنظيم والانضباط والخبرة، بين حرب 1991 على العراق وحرب 2001، يخلص بولاك الى استنتاج مرير، يقول: «بالاجمال شنت الولايات المتحدة حملة جوية مكثفة على العراق اكبر بكثير من حملتها ضد الطالبان، وقامت بايقاع ضرر اكبر على القوات العراقية. لكن التشكيلات القتالية العراقية الرئيسية لم تنكسر واستطاعت القتال بشدة اثناء الهجوم البري. وعلى اساس ذلك يمكن القول بان جزءا كبيرا من قوات صدام ستتمكن من الصمود بوجه هجوم جوي مركز، وستكون حتى اكثر القوات العراقية انهيارا قادرة على السيادة في مواجهات برية. لذا فان محاولة تطبيق النموذج الافغاني على العراق سيجعل القوات المهاجمة اكثر عرضة لهجمات عراقية مضادة خطيرة».

والملاحظ ان العراق لم يستمر فقط في صموده وقدرته على منازلة الآلة الحربية الامريكية، بل وحقق انجازات بعضها اعترف به الجيش الامريكي وبعضها لم يعترف به علناً.. فهناك على الاقل، حسب التأكيدات العراقية، نحو 15 طائرة أمريكية اصيبت بنيران الدفاعات العراقية، فضلا عن الطائرات المسيرة التي اعترفت امريكا بتمكن العراق من اسقاطها، واخرها السيطرة على هذه الطائرات اليكترونيا واعادة توجيهها لتهبط في مكان محدد من قبل الجهات العراقية. وكانت اعترافات المسؤولين العسكريين بهذا الصدد تحمل دلالات على تطور قدرات العراق الدفاعية. فالعقيد باك بيرغيس ـ مدير غرفة العمليات الجوية لمراقبة شمال العراق ـ يقول «ان الاخطار تكثفت على حياة الطيارين الامريكيين، ولم يكن يمضي يوم واحد دون تعرض الطائرات للنيران العراقية»، موضحا ان العراقيين اكتسبوا خلال الاشهر الماضية مهارة ملموسة في التسديد والتكهن بمواقع الطلعات واوقاتها. وكانت «الواشنطن بوست» قد نقلت عن احد جنرالات الجيش الامريكي العاملين في قاعدة «انجرليك» التركية، قوله ان العراقيين باتوا يمتلكون مدفعية مضادة لم تكن في حوزتهم من قبل. وان كثيرا ما يصل مرمى المدفعية العراقية الى مسافة (500) قدم من جسم الطائرة، وهي مسافة قصيرة جداً.. مؤكدا ان الخيار الذي بات يسلكه الطيارون في حال تعرضهم لخطر المضادات العراقية هو تجنب الاشتباك والخروج من منطقة الخطر، واحيانا يذهبون الى مناطق اخرى ليلقوا بقذائفهم ليصبح القصف بلا معنى وبلا اهداف. حتى انه قد ترددت انباء عن توصية قدمها الجنرال تومي فرانكس قائد القيادة المركزية للقوات الامريكية والجنرال جوزيف رالستون ارفع مسؤول عسكري امريكي في اوروبا الى البنتاغون، تقول هذه التوصية التي سربتها الـ «واشنطن بوست» بادخال تغييرات واسعة في طلعات المراقبة الامريكية بما يؤدي الى خفضها فوق الجنوب، وقصرها على رصد التحركات العسكرية باتجاه الحدود مع السعودية والكويت، في حين فضل الجنرال رالستون وقف الطلعات الجوية الامريكية بشكل كلي. ما تقدم يكشف بوضوح ان واشنطن قد تجد «باكستان» عراقية، لكن من المؤكد ان مهمتها في العراق لن تكون سهلة.

* كاتب وصحافي عراقي