خلاف بين أمريكا والاتحاد الأوروبي على نظام الفوضى العالمي

TT

لست أنا الذي اطلقت على النظام الذي يراد فرضه على العالم بعد احداث 11 سبتمبر اسم نظام الفوضى العالمي، لأن هذا المصطلح الجديد أخذ يرد على أقلام المحللين السياسيين في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وما بين 15 يوليو و19 منه انعقدت بمدينة «مونبوليي» الفرنسية ندوة علمية دعت اليها اذاعة «فرانس كيلتير» وجريدة «لوموند» الباريسية. وكان محورها تقييم النظام العالمي الجديد الذي اطلقت عليه الندوة «نظام الفوضى العالمي». وانتهت الندوة الى ان النظام الذي تُنظِّر له الادارة الجمهورية الامريكية وتطبقه وتتعامل مع العالم بمقتضاه بعيد عن ان يكون نظاما، بل هو تنظيم لفوضى يراد لها ان تعم العالم. وتستحق اسم الفوضى لأن مسافة الخلاف بينها وبين مدلول النظام شاسعة ومتباعدة.

اثر كل حرب عالمية كان ينشأ نظام عالمي جديد. ومنذ منتصف القرن الماضي والعالم يعيش نظام الأمم المتحدة الذي حفل بُمُثل وأخلاقيات تُجاري مستوى ما ارتفعت إليه البشرية من حضارة وتقدم. وكان هذا النظام امتدادا لنظام عصبة الأمم الحضاري السابق واغناء له بالمزيد من الأخلاقيات التي تبناها المجتمع الدولي اثر نهاية الحرب العالمية الأولى وانتصار الغرب الحضاري فيها. كما ان نظام الأمم المتحدة الذي نشأ سنة 1945 كان نقلة نوعية حضارية أكثر تقدما بانتصار الحلفاء الأوروبيين والأمريكيين على نظام النازية الفظيع الذي كان نكسة ورِدَّة في تاريخ الحضارة العالمية.

وجاءت حرب الحلفاء ضد العراق على إثر اكتساحه للكويت تصب في وجهة دعم النظام العالمي وحماية أخلاقياته ومثله من العبث بها. على الأقل هكذا قدمها الحلفاء للرأي العام العالمي بوصفها ردا على عدوان القوي على الضعيف، وتقويما لنزوع النظام العراقي الى الهيمنة والتوسع. وهي نزعة مرفوضة من النظام العالمي وقوانينه الدولية وتعتبر بائدة لا رجعة اليها.

لكن منذ حادث 11 سبتمبر الارهابي والعالم يعيش حالة بحث عن نظام جديد بريادة الولايات المتحدة التي اعتبرت غزوها في عقر دارها أفظع من مجرد حرب، وأن عليها ردا على العدوان الذي استهدفها ان تمنح العالم نظاما آخر نظَّرت له بمفردها ليكون نظاما قادراً على شل الارهاب بالمفهوم المجازف الذي اعطته للكلمة.

من المؤكد ان نكبة الولايات المتحدة بحادث الارهاب كانت فظيعة، لأن امريكا لم تمرَّ في تاريخها القصير بما يشبهها لعدة اسباب. منها ان حرب 11 سبتمبر كانت اولى الحروب التي جرت فوق ترابها بعدوان خارجي، وان العدو اتاها من حيث لا تحتسب وأحكم ضربته دون علم اجهزة مخابراتها المختصة التي اصيبت بنجاح الضربة الارهابية في كبريائها بينما مُنيت ـ وهي القطب الأعظم ـ بالفشل غير المفهوم وغير المقبول. ومنها ان محاربة الارهاب تتطلب استراتيجية عسكرية مغايرة لم تخطط لها الولايات المتحدة قبل. ومن الصعب توفير هذه الاستراتيجية في أسرع الآجال لأن حرب الارهاب حرب أشباح لا علاقة لها بالحروب الكلاسيكية التي خاضتها امريكا سواء منها الحربان الاوروبيتان ضد المانيا وحلفائها، أو الحرب التي لم تحقق فيها الانتصار كحرب الفيتنام التي استوطنت ذاكرة الأمريكيين عسكرييين ومدنيين الى اليوم.

لم يكن للعالم الا خيار اعلان تضامنه أو تعاطفه مع الولايات المتحدة اثر النكبة. وكان الاوروبيون معنيين بهذا التضامن اكثر، لأن الولايات المتحدة كانت سخية عليهم بمعونتها مرتين عندما نكبت اوروبا بالحربين العالميتين خلال نصف قرن واحد. وكان الأمريكيون قد رفعوا خلال الحرب العالمية الثانية شعار «كلنا أوروبيون» فلم يسع الاوروبيين الا ان يرفعوا بدورهم شعار «كلنا أمريكيون».

وبايع العالم كله الولايات المتحدة وحج الى البيت الأبيض جميع القادة العالميين للاعراب عن تضامنهم. وفهم الرئيس بوش من هذا التضامن الاجماعي انه بيعة عالمية جماعية تلقائية لتنصيب الولايات المتحدة على عرش العالم كله. ومنذ تلك اللحظة تحولت الفيدرالية الامريكية الى امبراطورية عظمى لا شريك لها، وانفردت بصنع نظام عالمي آخر لم تستشر بشأنه ولا اشركت حليفا من حلفائها في صنعه.

يلغي هذا النظام عددا متناميا من قواعد النظام العالمي الذي يراد وأده ويقوم على شرعية القوة، بينما النظام الذي لم يلفظ انفاسه الأخيرة كان يقوم على قوة الشرعية.

ويفرض هذا النظام الأمريكي الجديد الأمر الواقع بدلا من اعتماد التشاور والحوار، ويحالف نظم الديكتاتورية على حساب النظم الديمقراطية، ويضع قضية حقوق الانسان في خانة التهميش، ويندد بقتل المدنيين المنتمين الى الدول القوية، ولا يأبه بقتل المدنيين من لدن القوات المسلحة المحتلة لأراضي الغير، ويعتبر قتلهم مجرد دفاع مشروع عن النفس، ويعارض قيام المحكمة الدولية الجنائية وينزع عنها اختصاص النظر في جرائم حرب المواطنين الامريكيين مدنيين وعسكريين، ويستبعد ان تُطبَّق القوانين الدولية على رعايا الولايات المتحدة وفوق ترابها، ويعلي عليها قوة قوانينه الداخلية، ويشتط في ممارسة حق الفيتو لحماية الطغيان، ويعمل لتحييد سلطة الامم المتحدة وتهميشها لتكون له السلطة العليا، ويمتنع عن الانخراط في عدة اتفاقيات دولية ما كان ليعارضها لولا تشبثه الراهن بمبدأ سمو قراراته على القرارات الدولية ومنها اتفاقية بروطوكول كيوطو عن البيئة، ومعارضة تطبيق مقتضيات اتفاقيات جنيف عن أسرى الحرب.

ان هذا وغيره مما لا يحتاج الى التذكير به هو بعض ما يُحوِّل نظام الأمم المتحدة الذي حظي بالاجماع عليه الى نظام ينظم الفوضى كما أخذ يسميه به محللون سياسيون من بينهم امريكيون.

والجديد الطارئ هو اشهار الولايات المتحدة واسرائيل سلاح الاعلام لشرعنة هذا النظام الفوضوي وتسويقه. إذ اعلنا عن تأسيس اذاعتين موجهتين الى العرب والمسلمين (امريكية وإسرائيلية) لغسل الدماغ وتقديم صورة مشرقة الى العرب والمسلمين عن النظامين الأمريكي والإسرائيلي. وهذا النوع من الدعاية جربته نظم هُزمت في معركتها الاعلامية كما هُزمت في الميدان وكانت موضوع استنكار وتنديد من قوات الحلفاء انفسهم لأنها كانت تعمل لفرض الرأي الوحيد ولا تعتمد الحقيقة.

هذا النظام الجديد الذي تخطى عتبة المشروع الى فضاء التطبيق والتنفيذ أخذ يقابَل من العالم بالاستنكار ولا سيما من الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر ان اخلاقيات النظام العالمي القائم بعد الحرب العالمية الثانية جزء من أخلاقياته المقدسة ويرفض ان يقع المساس بها.

ولقد دخل استنكار هذا التوجه الامريكي مرحلة الجهر عبر الاعلام وما أخذت تزخر به المكتبات في اوروبا ـ وخاصة في فرنسا ثورة 1789 التاريخية ـ من دراسات وبحوث عن التحول الأمريكي من بلاد حامية للحريات، متعصبة للديمقراطية وحقوق الانسان الى امبراطورية كبرى همها نشر هيمنتها على العالم الذي قسمته بتقديرها الانفرادي الى خانة شر، وخانة حرب، وألغت مقاييس الموضوعية لاختيار تحالفاتها فحصرتها في من يحالفها ضد الارهاب بصرف النظر عن طبيعة مذهبه وسلوكه الأخلاقي.

ان الأمر يتعلق بخلاف على الثقافة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. الأول تخلى عن فلسفته التي طبعت سلوكه إبان الفترة الاستعمارية التي طالت أربعة قرون، ولم تعرفها الولايات المتحدة. أما هذه الأخيرة فهي تعيد سيرة القوى الامبريالية العظمى التي تحرر من عقدتها الاتحاد الأوروبي.

وستكون نقطة الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا التي يطفح معها الكيل هي تنفيذ مشروع حرب العراق التي يُجمِع العالم على انها ستكون غير عادلة، ولن تقبلها اوروبا لأنها تخالف قواعد ثقافتها الاستراتيجية وبالأحرى ان تنخرط فيها خلافا لما فعلته في حرب العراق السابقة.

وما يزال عدد من المفكرين السياسيين في اوروبا والولايات المتحدة يؤملون ان تجتاز الإدارة الامريكية مرحلة الرد على الارهاب بالعنف، وتراجع مواقفها التشنجية بالتحلي بالحكمة المعهودة من هذا البلد العظيم الذي كان منذ نشأته وفيا للمثل والأخلاقيات الخيِّرة وناصرا لقضاياها ومتقيدا بروح التضامن الجماعي.