صورة من قريب: المشهد من الجبهة الإسرائيلية.. والفلسطينية

TT

سأروي هنا تفاصيل يوم في حياة اسرائيل وفلسطين. وصلت القدس قادما من هونغ كونغ في الخامسة صباحا. وبعد وصولي بسيارة اجرة الى بوابة فندق الملك داوود في القدس دلفت الى البهو لاجده معتما وخاليا تماما من البشر. وبينما تساءلت في نفسي ان كان مكتب السياحة ارتكب خطأ ما وان الفندق مغلق، ناديت بأعلى صوتي: مرحبا، هل هناك من احد؟ مرحبا! واخيرا، برز موظف استقبال من احدى الزوايا المعتمة، حيث كان نائما فوق احدى الكنب. وتبين لي في ما بعد ان الفندق سرح كثيرا من موظفيه، لان السياحة في حالة تجمد. وسألت الموظف: «هل انا النزيل الوحيد في هذا الفندق؟» فاكتفى بالضحك! صبيحة اليوم التالي ذهبت بالسيارة الى رام الله برفقة صحافي فلسطيني صديق. وتصادف وصولنا الى مدخل المدينة الخلفي، مع احدى المواجهات التي كانت مندلعة. كان هناك شارع طويل وعريض، يختبئ في نهايته من جهتنا جنود اسرائيليون خلف ثلاث سيارات مصفحة، يظهرون من وقت لآخر بشكل خاطف لالقاء قنابل الغاز المسيِّل للدموع، او اطلاق زخات من الرصاص المطاطي والذخيرة الحية على الشباب الفلسطيني الذين يمطرون الجنود بالحجارة من خلف كومة محترقة من السيارات. وخلف الفلسطينيين، كانت هناك خمس سيارات اسعاف فلسطينية رابضة بالانتظار. ولحظة سقوط فلسطيني، تنهب سيارة اسعاف الارض لتحمل الصبي الجريح الى المستشفى، وكأنه محارب روماني مثخن بالجراح. اما خلف هؤلاء جميعا، فكان حشد من حوالي 300 فلسطيني، من مختلف الاعمار، يتفرجون ببساطة على المشهد، وبينهم وقف في زاوية غير بعيدة بائع كباب! بعد ذلك، تحركنا بالسيارة متجاوزين عددا من البيوت لنتفرج على المواجهات من الجانب الفلسطيني. وفور وصولنا هناك اخترقت رصاصة قناص اسرائيلي قدم فتاة فلسطينية. وسارعت سيارة اسعاف الى نجدتها. وانتشر صبيان فلسطينيون يرتدون الجاكيتات الجلدية ويحملون بنادق اوتوماتيكية، وكأنهم نسخة حية من فلم «بيروت الغربية»، يرومون المكان ويردون بنيران اسلحتهم على الاسرائيليين. وفي زاوية متوارية جلس عدد من كبار السن الفلسطينيين في مقهى يدخنون الارجيلة غير مكترثين بما يجري حولهم. شعرت حينها ان الفلسطينيين لا يشعرون بوخز الضمير من تركهم الشبان يتعرضون لاطلاق النيران عليهم.

والاسرائيليون بدورهم يطلقون النيران دون وخز للمضير.

توجهنا بعدها الى مستشفى رام الله، فوجدنا نحو 20 شخصا في جناح الطوارئ، يتفرجون على الشبان الذين ينقلون من حين لآخر الى المستشفى. اما المزاج المسيطر فكان خليطا من الفخر والرعب . وبدا احد الصبيان المتمددين فوق نقالة الطوارئ سعيدا بحصوله على وسام الشرف الذي كفلته له الرصاصة التي اخترقت جسده وتركته حيا. اما الصبي الذي اتى بعده فكان اقل حظا منه، اذ اخترقت الرصاصة التي اصابته الوجه والصدر، والتف الاطباء حوله يقطعون ملابسه لمعالجته. اما الذين تجمهروا حوله فوقفوا للتفرج. انها حرب تعيسة. بيد انها عرت عددا من الحقائق الاساسية. يأتي في مقدمتها ان الدعاية الاسرائيلية التي روجت ان الفلسطينيين الان يحكمون انفسهم في الضفة الغربية ما هي الا محض كلام فارغ وسخيف. فبينما يسيطر الفلسطينيون على مدنهم، يسيطر الاسرائيليون على الطرق التي تربط بين هذه المدن، وبالنتيجة يتحكم الاسرائيليون بكل حركة الفلسطينيين. ولا تزال مصادرة اسرائيل للاراضي الفلسطينية لبناء مزيد من المستوطنات جارية حتى يومنا هذا، حتى بعد مضي سبع سنوات على اتفاق اوسلو. الواقع انه لا امل لسيادة السلام هنا من دون قيام دولة فلسطينية في غزة والضفة الغربية.

اما الحقيقة الثانية، فهي ان الاعتقاد بان الفلسطينيين هنا غاضبون من مجرد وجود المستوطنات ما هو الا ادعاء فارغ وسخيف. تكلم مع صبي فلسطيني في الخامسة عشرة من عمره، لتدرك ان شعورهم بالظلم والضيم يتجاوز المستعمرات الاسرائيلية، ليشمل كل اسرائيل. ولا يزال اغلب الفلسطينيين لا يتقبلون ان لليهود اي حق اصيل بالوجود هنا، ولهذا السبب، ينبغي الا يسمح لأي دولة فلسطينية تقام هنا بامتلاك الاسلحة الثقيلة، لان الفلسطينيين اذا حصلوا عليها اليوم فان المتشددين فيها سيستخدمونها في تل ابيب غدا. فضلا عن ذلك، فان هذه الثورة هي في احد جوانبها تعبير عن احباط يشعر به الشبان الفلسطينيون ضد ادارة ياسر عرفات، الذي حول غضبهم تجاه اسرائيل لينجو بنفسه.

باختصار شديد لقد حاول الطرفان حتى الآن التوصل الى السلام بينما بقيا متشبثين باساطيرهما العزيزة عليهما، والاسطورة بالنسبة لاسرائيل هي التوصل الى السلام والتشبث بالمستوطنات في وقت واحد، اما للفلسطينيين فهي استرجاع الارض والتشبث برفضهم لاسرائيل. لقد بددت المواجهات الاخيرة هذه الاوهام، وليس من سبيل لاستئناف مفاوضات السلام الا عندما يعترف الطرفان بذلك، بينهم وبين انفسهم، أولا، وبينهم وبين الطرف الآخر، ثانيا.

* كاتب وصحافي أميركي ـ خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ «الشرق الأوسط»