التحدي الإسرائيلي والاستجابة العربية

TT

ليس الحال في العالم العربي سيئا الى الدرجة التي يعتقدها الكثيرون من الناقدين خاصة من بين المثقفين العرب ومن الشباب ومن رجل الشارع ايضا. حقا ان هذا العالم يعاني الكثير من المشاكل ولعل في مقدمتها الثقافة السائدة التي لم تكد تعرف معنى الحداثة، ولكن النظر الموضوعي الى الخمسين سنة الماضية ـ منذ نشأة دولة اسرائيل ـ من الممكن ان يعطينا اجابة بأن المجتمعات العربية صارت افضل كثيرا مما كانت عليه قبل قيام الدولة الاسرائيلية. وعلى الرغم من الاحباطات الكثيرة التي سببها قيام هذه الدولة والاهدارات الاقتصادية بسبب سباق التسلح والحروب المتعددة التي خاضها العرب، فان الوضع ليس سيئا تماما. ومن المنطقي ان نتصور وجود طابور خامس اسرائيلي واحتمالات التخريب في المجالات المختلفة، الا أن هناك تقدما ما وخبرات جديدة تضاف الى المجتمعات العربية والى قياداتها. فالواقع ان التحدي كان هائلا لو رجعنا الى خمسين سنة مضت حيث احتضنت القوى الكبرى المشروع الصهيوني بالاستيطان في فلسطين واتخذت العديد من الوسائل التي تملكها لتجعل هذا الاستطيان واقامة الدولة حقيقة واقعة. وبصرف النظر عن الاسباب الكامنة وراء ارادة هذه الدولة الكبرى او تلك في احتضان المشروع الصهيوني ودعمه الى الدرجة القصوى، فانه من الواضح أنه كانت هناك ارادة قوية نجحت في أن تفرض على الامم المتحدة الاعتراف بالدولة الاسرائيلية. لقد كانت اغلب الدول العربية تحت الهيمنة الاستعمارية، ومنذ قهر تحالف الدول الاوربية الكبرى جيش محمد علي وارغمه على توقيع معاهدة 1841 اصبحت القوة العسكرية محكومة بالارادة الاوربية وصار ممنوعا ان يزيد عدد جنود القوات المسلحة عن 18 الف جندي، واغلقت مصانع السلاح، وأنهيت كل المؤسسات التي كان من الممكن ان يتواتر عليها التحديث وظلت الاوضاع تتدهور الى ان قامت الحرب بين القوات العربية و«العصابات الصهيونية» التي كان يقودها ضباط يهود صهاينة اشتركوا في الحرب العالمية الثانية والتي سلحت بأحدث الاسلحة. بينما كانت الجيوش العربية في اسوأ الاوضاع من حيث التسليح والتدريب. اما في المجال السياسي فلم يكن السياسيون مدركين بشكل واضح خطط ومشاريع الدول الكبرى واستراتيجيتها في المنطقة. وكان رجل سياسي مصري من الطراز الاول في ذلك الزمان هو الدكتور محمد حسين هيكل، الذي كان رئيسا لحزب الاحرار الدستوريين، بالكاد يستنبط ـ من بعض لقاءاته وملاحظاته ـ ملامح غامضة للمشروع الصهيوني وموقف الدول الكبرى منه، ولقد ذكر انطباعاته هذه في مذكراته السياسية. وكانت مؤسسة القصر في مصر في اسوأ حالاتها، اذ كان الملك شابا صغيرا وأحاطت به مجموعة من السياسيين محدودي الافق دللوه الى حد الاستهتار بكل شيء وخضعوا له خضوعا منافقا الى ان تحولت المؤسسة الى مركز للدسائس والمؤامرات كما كان الولاء موزعا ومضطربا الى اقصى حد. وكان من السهل على اي مراقب ان يدرك ان النظام القائم سوف يسقط بين وقت وآخر. والعجيب ان هذا ايضا كان شعور الملك فاروق نفسه والذي دفعه الى ان يستولي على اي مال تأتيه الفرصة للاستحواذ عليه حتى لو كان على سبيل الرشوة ادخارا لمستقبل غامض كان يتوقعه. وكان العمل السياسي مركزا في القضية الوطنية اساسا حيث كان الاحتلال البريطاني جاثما على قلب مصر وكانت كل المشاكل التي يعانيها المجتمع المصري ملقاة على عاتق الاحتلال. ومن يراجع كتابات هذه الفترة قلما يجد اهتماما واضحا بالقضية الفلسطينية. ولم يكن المشروع الصهيوني مفهوما، ولكن منذ قرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين بدأت القضية تلفت الانتباه، وعندما وقعت المواجهة العسكرية مع العصابات الصهيونية عرف الضباط والجنود مجمل المشروع واهدافه، وربما صاروا اكثر من غيرهم من قطاعات المجتمع المصري بما في ذلك قطاعات المثقفين الماما بأبعاد المشروع الصهيوني. وللانسان ان يصدق ان فكرة ثورة الضباط بدأت بالفعل من هذه النقطة. الواقع ان المجمتع المصري كان في اضعف حالاته عند المواجهة مع تفاعلات المشروع الصهيوني. كان النظام الدستوري قد تهرأ، وكان تزييف الانتخابات قد عرف على نطاق واسع، وكان حق الملك باقالة الوزارات مطلقا من كل قيد. اما قوات الاحتلال فكانت ـ بواسطة ما تملكه من قوة عسكرية طالما استعملتها في ظروف عديدة ـ تملك ضبط حركة المجتمع عندما ترى ذلك. كانت هي في الواقع المرجع الاعلى للعمل السياسي. وفي هذه الظروف ايضا كان العالم الخارجي يتشكل من جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور قوى ديناصورية جديدة مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولم تكن الامور واضحة تماما، ولكن الناس كانوا يشعرون بأنهم يقفون على حافة تغيير جوهري لا يدرون بالضبط اتجاهاته. اما على المستوى الاجتماعي فكانت نسبة البطالة مرتفعة جدا وكان الفقر بارزا في الكثير من المواقع الاجتماعية وكانت الطبقة الوسطى تتزاحم على الوظائف القليلة وكان اغلب الاقتصاد في ايدي الاجانب وكانت الامية تصل الى اكثر من 60% وكان المجتمع مهيأ تماما للثورة، وهو ما حدث بالفعل بعد سنوات قليلة من المواجهة الواهنة مع المشروع الصهيوني على الارض الفلسطينية. ومهما يكن رأينا في التطورات اللاحقة. في الحروب العسكرية والهزائم والانتصارات فان الاوضاع صارت مختلفة تماما. صارت الى الاحسن بغير نزاع. حقا ان العالم كله تغير وتطور بحكم تقدم العالم في المجالات المختلفة، ولكن العالم العربي اليوم يختلف تماما عن صورته قبل خمسين سنة. وكذلك الامر بالنسبة لدولة اسرائيل. ومع أن جزءا كبيرا من نجاح التجربة الاسرائيلية اقتصاديا يرجع الى الدعم الخارجي وعلاقاتها المفتوحة بالقوى الكبرى المساندة لها، الا ان احدا لا ينكر ان القيادات الاسرائيلية على الرغم من كل عقدها العنصرية استطاعت ان تستفيد من كل هذه الظروف لتجعل الدولة الاسرائيلية اقرب الى ان تكون دولة اوربية متقدمة. وهي بالقطع مختلفة عن العصابات الصهيونية التي واجهت الجيوش العربية في سنة 1948. وقد تكون لدى المجتمعات العربية مشاكل عويصة بسبب التحولات الثقافية التي مرت بكثير من مجتمعاتها. فبلد مثل مصر عرف شيئا من الليبرالية وبعض ابعادها الديمقراطية، ولكن مقاومة الليبرالية كانت دائما بالغة العنف لعمق الجذور الثقافية المنحدرة من ثقافات عصور التدهور الثقافي منذ هيمنة الدولة العثمانية وتحوير الثقافات القائمة لتبرير النظم الطاغوتية التي كانت سائدة في بلدان الامبراطورية العثمانية. ولقد استمرت تلك الثقافة راسخة حتى بعد التطورات السياسية التي حدثت في المجتمع المصري. وكانت الثقافات المتقدمة تظهر وتختفي خلال الخمسين سنة الماضية، ولكن ثقافة الطاعة والتلقين، او قل ما قبل الحداثة، ما زالت مستقرة في قلب المجتمع تمر عليها الحداثة وتظهر وتختفي وتلك الثقافة لم تزل قائمة. وكلما ابتعدت المجتمعات العربية عن الديمقراطية اطبقت عليها ثقافة الطاعة والتلقين وامسكت بخناق الفكر الحر المتجدد فيها. وهذه الثقافة مسؤولة بغير شك عن العنف والارهاب الذي يظهر بين وقت وآخر داخل المجتمعات العربية نفسها. ومع ذلك فالمجتمعات العربية ليست في حالة جمود فكري او اجتماعي، فهناك اصوات عديدة تظهر في هذا المجال او ذاك تنقد ثقافة الطاعة والتلقين وتثير الكثير من القضايا الحداثية في مجالات عديدة، كما أن نداء الديمقراطية يتردد في اكثر من مجتمع، وعلى الرغم مما يمكن ان يقال بالنسبة للكثير من الانظمة العربية الا أن هناك تجاوبا محاذرا من الديمقراطية يظهر في اكثر من موقع في هذا المجتمع العربي او ذاك. كما ان افكار الاستنارة ليست محجوبة تماما على الرغم من الميل الطبيعي للانظمة غير الديمقراطية لثقافة الطاعة والتلقين. والكثير من الانظمة العربية تحتكر كل مجالات الاعلام والثقافة والتعليم وتفرض نمطا ابويا على عقول مستهلكيها ولكنها تبدو مهتزة ومضطربة وغير ثابتة الاقدام، كما انها تتلقى ضربات مؤثرة من الاعلام الخارجي في زمن ثورة المعلومات ووصول قنوات مختلفة تبث ثقافة حداثية الى تلك الجماهير التي لم تعد تستسيغ محاولات احتوائها ثقافيا. وفي المجتمع المصري ما زالت ثقافة واعلام الطاعة والتلقين تقلق من النقد ولا تتقبله، وربما كان هذا وراء ثورة الاجهزة الاعلامية في مصر ضد بعض القنوات الفضائية العربية التي تعرضت بالنقد او قل الهجوم على مصر. وبصرف النظر عما يكون الرأي في هذه القناة او تلك في مجتمعات ما زالت نظرية المؤامرة سائدة ـ وربما كانت محقة في ذلك ـ فان الثقافة الموروثة من عصور التدهور تصاب بالهلع عندما تستمع الى كلمات النقد او الرفض. على ان ردود الفعل بدأت تتغير وصارت مسحة من العقلانية تتحسس عقول الناس في المجتمعات العربية. وكما ان هذه المجتمعات صارت تقترب ـ بشكل ما ـ الى الديمقراطية ببعض الاجراءات الاصلاحية، فان الفكر العقلاني بدأ يجد مكانا في عقول طبقات مرموقة هنا او هناك. وما ترتكبه اسرائيل من عدوان ضد الشعب الفلسطيني وقصر نظر قياداتها، وقل ايضا صلفها وغرورها واستنامتها الى ان الشعوب العربية غير قادرة على التطور، يساعد ـ دون قصد بطبيعة الحال ـ على ان تكون الاستجابة العربية للتحدي الاسرائيلي قوية وصاعدة. وهو الامر الذي لا يمكن ان ينكره الا مكابر. وعلى الرغم من كل النقد الذي يمكن ان نوجهه للانظمة العربية، بل والمجتمعات العربية ككل، الا ان كل الظروف والملابسات، بما في ذلك السيئة منها ايضا، تشير الى ان الامور تتغير وأن هذه المجتمعات ليست مستعصية على التقدم.