إن نفعت الذكرى

TT

امام هول ما يجري، هل من صالح العرب ان يتذكروا أم ينسوا..؟

واذا قرروا النسيان، فمن يسعفهم على اسدال الستار على تلك الفجائع والكوارث، والشوك الذي زرعه غيرهم في ارضهم ليحصدوه، وتدمى به اجيال ولدت بعد بذرة الوعد الخبيثة بعشرات السنين.

وان شئنا الدقة تاريخيا، فإن وعد بلفور الصادر في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917، ليس البذرة ولكنه الجذر الذي نبت منها. أما زراعة الشر في ارضنا فقد بدأت قبل ذلك بزمن طويل، فجمعية فلسطين انشئت في بريطانيا منذ عام 1804، واول محاولة للاستيطان سبقت الوعد المشؤوم اشرف عليها السير موشيه مونتفيوري الذي اقام نواة الحي اليهودي خارج اسوار القدس عام 1859.

ومونتفيوري هذا من اصهار اسرة روتشيلد، وقد حصل على فرمان عثماني لشراء الارض بحجة بناء مستشفى عليها ثم حولها الى مساكن شعبية للهيود الذين كانوا قد بدأوا بالتقاطر على فلسطين في الربع الاول من القرن التاسع عشر ولم يتضاعفوا لقلة المغريات ـ آنذاك ـ إلا في أواخره، وبعد الدفعة المعنوية التي شكلها مؤتمر بال عام 1897 الذي يعتبر من العلامات الفارقة في التاريخ الصهيوني.

ووعد بلفور في حد ذاته ليس له أي قوة قانونية، وقد كان يمكن ان يظل بمثابة رسالة تعاطف من وزير بريطاني الى ثري يهودي لولا ان بريطانيا كانت تسابق المانيا لكسب ود اليهود الذين كانوا يسيطرون على المصارف. ويعتقد الدكتور علي المحافظة مؤلف كتاب «العلاقات الالمانية ـ الفلسطينية»، ان الاهتمام الالماني بفلسطين بدأ قبل عام 1865، وان الوعد المشؤوم لو تأخر صدوره عن البريطانيين لصدر عن الحكومة الالمانية التي لم تكن قبل هتلر تكنُّ لهم العداوة.

وعلى هذا الضوء يمكن ان نفهم عبارة وايزمن في مذكراته حين قال: «كانت بريطانيا تعمل من أجل اليهود اكثر من اليهود انفسهم ليس حبا باليهود أو الصهيونية، وانما حب بمصلحتها وتأمين لاهدافها ومراميها».

اما عن الاهداف والمرامي فتجدها في اوراق جون فيلبي التي تحتفظ بها كلية سانت انتوني، ففيلبي يؤكد ان الامبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس ارادت زرع جسم غريب في المنطقة خوفا من قيام اتحاد فيدرالي بين الولايات العربية يصعِّب عليها مهمة التحكم بالمنطقة.

وتخف صيغة العطف على اليهود امام خدمة مصالح الامبراطورية حين نعلم ان اكبر المعارضين للوعد اللئيم في الحكومة البريطانية في عهد سيئ الصيت بلفور، كان الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة، وهو ادوين مونتاغو، وزير الهند الذي قدم بعد عدة اشهر من وعد بلفور مذكرة لحكومته بتاريخ 23 اغسطس (آب) 1918 أكد فيها ان الوعد سيعقد وضع اليهود في العالم ويسيء للساميين حيث ستعمل كل دولة على التخلص من يهودها وارسالهم الى فلسطين، وسيشعر كل يهودي في العالم بأنه اجنبي في وطنه. وهذا الوزير اليهودي اول من طالب ايضا بتجريم المنظمة الصهيونية لأنها ضارة بالمصالح الانجليزية.

فهل كانت بريطانيا تعمل لمصلحتها ام ضد مصلحتها..؟ وهذا سؤال لا يعرف البريطانيون كيف يجيبون عنه، ولو سألتهم اليوم لقالوا صادقين ان كل حدث مرتبط بظروفه التاريخية، وما كان صحيحا امس قد لا تثبت صحته اليوم فالسياسة والمصالح متحولة وغير ثابتة.

وقد عرف اليهود كيف يستغلون المتحولات وبقينا في منطقة الثوابت لأنهم سرعان ما تركوا الامبراطورية العجوز لضعفها واستعجلوا تحسين العلاقات بالولايات المتحدة الاميركية، القوة الصاعدة على الشاطئ الآخر للاطلسي، لتحويلها مع الايام من صديقة محتملة الى حليف استراتيجي. وها هم يحصدون اليوم ثمار ذلك الغرس بالحصول على دعم غير محدود وغير مشروط من تلك الدولة التي تعلم انهم على باطل وتساعدهم، وتعلم اننا على حق، وتقف ضدنا كما في البيان المخزي لكونجرسها الذي يحمل الفلسطينيين تبعات ما يجري، وكأنهم هم المعتدون. ألا ساء ما يفكرون وما يقررون.

ان الذكرى لا تنفع إلا اذا استخلص المتذكر دروسها وتعلم من اخطائها، أما اذا تحولت الى حائط مبكى وطلل نقف عليه لنبكي ونستبكي، فتلك هي الطامة الكبرى.