قرارات القمة العربية: فِكر أم سياسة

TT

كثيرة هي التعليقات والتحليلات التي تناولت قرارات القمة العربية التي انعقدت في القاهرة السبت قبل الماضي. والمتابع لمعظمها يلمح أنها تدور في فلك (السياسي)، بمعنى أنه ينصب التحليل على المرجعية السياسية في النظرة والربط والتعليل، هذا لا يعني أن التحليلات غير سليمة، وإن كانت تبقى اجتهادات، بقدر ما يعني أنها أغفلت أو تغافلت جوانب أخرى مهمة، قد يكون لها الدور الحقيقي في إفراز هذا التوجه السياسي أو ذاك، ولعل أهم هذه الجوانب ما يتعلق بالجانب العقلي الذي بلا شك يُعد المولّد الرئيسي لهذا التيار أو ذاك.

إذن العقل، كان اللاعب الحقيقي في ملعب القمة العربية.. كيف؟! لو نظرنا إلى التيارات المتعددة من قبل الدول المشاركة إزاء الحدث الفلسطيني الراهن، نجد أنها تمايزت بشكل واضح، فكان منها المعتدل والمتطرف.. إلخ. بمعنى، أن العقلية العربية (التي من المفترض أن تنتمي إلى مرجعية مشتركة) تناولت الحدث بشكل انفرادي ذاتي يتناول معطياتها وظروفها الخاصة مع محاولة المواءمة مع خطورة الظرف الراهن فضلاً عن غضب الشارع العربي.

يمكن القول هنا، إنه كان صراعاً بين مصالح الدولة (أيّ دولة) الذاتية، وبين القيم (القومية والإسلامية) التي تستوجب المشاركة والتفاعل مع الحدث الفلسطيني (شعب عربي) وقضية القدس (أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين). وحتى لا ندخل في لجّة التحليلات المبهمة، نحاول ضرب الأمثلة التي يمكن من خلالها تفسير المراد الذي نقصده. فمثلاً التيار المتطرف الذي طالب بالجهاد، ومثّله: العراق وليبيا، يكشف عن عقلية متشدّدة وثورية، لكونها اعتادت على هذا السلوك في تعاملها مع المواقف والأحداث المتعددة، ولعل التناقض يحدث حينما تتأمل قاموس البعث العراقي (العلماني) ومطالبته بالجهاد الذي يدخل ضمن القاموس (الإسلامي)، فغرض العراق من ذلك استغلال الموقف وتهييج مشاعر الجماهير العربية (المسلمة) بقصد إحداث فجوة وربما أكثر من ذلك بين الشعوب وقادتها. والحقيقة أن الدول التي طالبت بالجهاد لم تكن لديها الرغبة الحقيقية الجادة في القيام والمناداة به ولن يكون لها ذلك في المستقبل، فما حدث يمكن تفسيره أنه انعكاس للعزلة الدولية التي عاشتها ليبيا، ويعيشها العراق، ناهيك عن المشاكل الاقتصادية الداخلية. إذن الموقف المتطرف كان يرمي إلى إحداث فوضى شعبية ـ إن جاز التعبير ـ في كل الدول العربية، ومحاولة أيضاً إشغال وإلهاء شعوبهما بهذه القضية.

فالتيار المتطرف لم يوازن بين مصالحه الذاتية وقيمه القومية، لأنه ليس لديه ما يراهن عليه، فالوضع الاقتصادي لن يكون أسوأ مما كان، وبالتالي تمّ استغلال هذه القيم (الدفاع عن القدس والمطالبة بالجهاد) التي لا يؤمن بها في قرارة نفسه، فالعقل هنا وليس السياسة كما يبدو للوهلة الأولى، وإن كانت السياسة الأداة التنفيذية لهذا المشروع العقلي أو ذاك.

وحين ننظر إلى الدول التي كانت ضد إلغاء التطبيع وسحب السفراء: مصر والأردن، نجد أن الموازين والقوى ذات وضع مختلف، فعقلية هذا التيار رأت أن المصلحة الذاتية (الوطنية) أهم من التمسك بالقيم المشار إليها سابقاً بالمفهوم العملي، وإن كانت تمسكت بها نظرياً (الشجب والاستنكار والإدانة..)، فارتأت استخدام الحدّ الأدنى من المطالب، وهو ما جعل إسرائيل أن تفسّره عقلانياً وحكيماً. لذلك فتوجه تلك الدول لهذا المنحى (أي ضد إلغاء التطبيع.. إلخ)، لظرف وحاجة ومصلحة وطنية قبل أن تكون توجهاً سياسياً، فالمقومات الداخلية لهذه الدول تظل في حاجة مثلاً إلى (المعونة الأميركية والمساعدات الأجنبية بشكل عام)، التي يتم إقرارها استناداً إلى القرارات السياسية لهذه الدولة أو تلك.

غير أن الدول الآنفة الذكر، لا تقارن بالدول التي انتهجت التيار المعتدل: السعودية مثلاً، فالأخيرة لديها من القدرة الاقتصادية ما يجعلها تحقق مرحلة التوازن المذكورة آنفاً (بين المصلحة الوطنية والقيم القومية والإسلامية)، حيث عكست لهجة الأمير عبد الله ـ على حدّ قول BBC ـ خيبة الأمل التي يشعر بها العرب بسبب تأييد أميركا لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، وحمّل اللوم للولايات المتحدة الأميركية في انهيار مساعي السلام، ويرى البعض أن مثل هذه التعليقات ليس لها سابقة في الخطاب السعودي. ففي الحالة السعودية (الدول المعتدلة) وحين أدانت أميركا علناً في القمة، فإنها بذلك قد غلبت (القيم) على (المصلحة الذاتية) لأن المقومات الداخلية (من اقتصاد وغيره..) يمكن الارتكاز عليه، ويعتبر مؤمّناً مقارنة بتلك الدول الأضعف اقتصادياً التي تظل في حاجة للمساعدات والمعونات فضلاً عن بعض الموازين المحلية والخارجية التي ليست مثار نقاشنا هنا.

على أية حال، تلك التيارات التي قيل إنها تمخضت عن القمة، لم يكن غرضها سياسياً، وإن بدا كذلك، لكنه العقل هو الذي قاد كلا منها لهذا التوجه أو ذاك.

فالفِكر العربي أو أي فِكر ما هو إلاّ مجموعة من النصوص، وفق تعبيرات الجابري، ومن ذلك يمكن القول إن الخطاب السياسي مجموعة من الأفكار التي تحمل في نهاية المطاف وجهة نظر معينة. هذه الوجهة من النظر يتلقاها المواطن أو المستمع أو القارئ، فيفهمها بطريقته الذاتية، وهو ما يسمى ـ كما يقول الجابري ـ تأويلاً للخطاب أو قراءة له. والحقيقة أن قرارات القمة العربية ما هي إلاّ عبارة عن مجموعة خطابات سياسية موجهة إلى الشعوب، ومن ثم تقرأها وتتأمّلها الشعوب، وبالتالي تتخذ موقفاً مختلفاً حيالها، لأن كلاً منها يختار الطريقة التي يقرأ فيها هذا الخطاب أو ذاك، وإن اتفقت في النهاية أنها لأغراض سياسية، بينما الحقيقة الماثلة للعيان تكمن في أن العقل (الفِكر) هو الذي يفرز كل الجوانب (وما السياسة إلاّ أحد هذه التوجهات) وحتى نحصل على قراءة فاحصة ومحايدة يجب أن تتم مجتمعة لا منفردة، وإلاّ أصبحت انحيازاً.