أَعترف: كنتُ عنصريّا!

TT

بثّت القناة السويسريّة الأولى أخيراً، برنامجاً بعنوان «كنت عنصرياً»، استضافت فيه اثنين من «التائبين» من ماض عنصري بغيض، إضافة إلى متخصصين في المجال التربوي. وقد كان البرنامج نموذجا بحق للصراحة والمكاشفة، وتحدّث كل من هذين العنصرين «سابقا» بصراحة عن ماضيهما العنصري. وحاولا استكناه أسبابه الحقيقية، وتركا للآخرين محاولة التحليل والحديث عن مناطق في الوعي بعضها مفهوم والبعض الآخر غير مفهوم في النفس الإنسانية. لكنهما على كل حال حازا إعجاب الحاضرين في الاستوديو والمشاهدين (غير العنصريين) بالطبع. وما يستحق التسجيل هنا، هو سعادتهما الغامرة وهما يتحدثان عن تخلصهما، وإلى الأبد من «مرض» كاد يحولهما إلى كائنات غير سوية، وغير متوازنة، ربما أدى بهما إلى ارتكاب جرائم على غرار ما نسمع عنه ونراه يومياً تقريباً في الكثير من بلدان العالم، لا سيما الغربي منه. الأول هو الآن ضمن العاملين في الكنيسة الأنغولية!! في فرنسا، وفي «تجلياته» أمام الكاميرا تحدث عن كرهه السابق «للأفارقة» على وجه الخصوص. وحدد لذلك بداية تستحق التأمل والتوقف عندها كثيرا، وهي مظاهرات الطلبة في فرنسا عام 68. لكنه أرجع هذا الكره والحقد إلى أسباب أخرى برأيي أكثر أهمية من مظاهرات الطلبة، فقد تحدث «الأب» الجديد عن نشأته ضمن محيط عائلي يكره الأجانب بصورة عامة، والأفارقة منهم على نحو خاص، لا سيما في أعقاب حرب الجزائر. ويحدّد من بين المحيط العائلي الأب الذي كان على حد قوله يمينيا متطرفا ويكره الأجانب، ويصوت في الانتخابات لليمين المتطرف. وهنا باعتقادي مكمن الداء. فالأب يترك أثراً عميقاً في ابنه. وهذا الأثر قد يستمر ويكبر ويحدد مستقبل ومصير هذا الابن. وعليه، يضيف هذا التائب، فمن الطبيعي أن أجد نفسي متواصلا مع طروحات ومشاعر والدي، الأمر الذي أدى به إلى النظر إلى الأفارقة على أنهم مخلوقات مغايرة، وعجيبة «بالمعنى السلبي» وتستحق الطرد من فرنسا.

هذا الشخص العنصري الذي «رضع» العنصرية من ثدي العائلة كان «لا دينيا» حتى لا نقول ملحداً! وبالطبع ليس ثمّة من وازع لردع هذا الداء الخبيث الذي تمكن من روحه منذ أن كان طفلا. وهنا بالذات تبدأ المفارقة في حياة صاحبنا التائب، العائد إلى حضن الإنسانية الرحبة والسمحة. يقول «الأب» الجديد أنه عثر مصادفة على نسخة من الإنجيل بين يديه ثم بدأ بالقراءة، ويا هول ما عثر عليه: إن الناس سواسية!، ويردف بأنه بدأ يتردد في أعقاب ذلك على الكنيسة. وهناك كانت المفاجأة بانتظاره، في الكنيسة يوجد أفارقة!! ولم يمنع نفسه من التساؤل في البداية عن السبب الحقيقي لوجود كل هؤلاء «الملونين» بين «الأصحاء» من الفرنسيين! يرجع هو أسباب شفائه بعد ذلك إلى المداومة على قراءة الإنجيل والتردّد على الكنيسة، حتى كان يوم غيّر مجرى حياته بالكامل، وقد كانت بدأت تتغير شيئا فشيئا من قبل. لقد جاء أفارقة «أنغوليون» بكامل عدتهم الإنسانية وطلبوا من «الأخ» الجديد أن يتولى شؤون كنيستهم التي كانوا يزمعون تشييدها في ذلك الوقت! لقد صُعق للطلب الملون، لكنه فجأة وجد نفسه يرتمي في أحضان «الأفارقة» الطيبين جداً ـ سيكتشف ذلك في ما بعد ـ مرغما! وفي الحقيقة فقد كان يرتمي في أحضان الإنسانية الرحبة، التي تتسع للجميع. وهنا عثر الراوي على خلاصه وشفائه معا. إنها الحرية، أن يكون المرء إنسانا بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ولقد عثر على نفسه واستعاد توازنه طارداً الشبح الثقيل لوالد يميني متطرف لا يرى الإنسانية إلاّ إنسانا في كامل بياضه، وربما فرنسيته! جون فرانسوا هو التائب الثاني. وهو سويسري من مدينة جنيف. وله تجربة مشابهة، غير أن الذي كسر جدار سور الصين العظيم في داخله تجاه الآخر لم يكن الأفارقة هذه المرة، ولكن أهل «التبت»! فكل ما حدث له ببساطة أنه التقى ذات مرة الفتاة التبتية «ميكاييلا». وسرعان ما أحبها ثم تزوجها. وإذا به يتخلص وإلى الأبد من مرض العنصرية المزمن. والغريب حقا أن فرانسوا قد أصبح من المدافعين عن حقوق الإنسان، لا سيما التبتي! حيث افتتح موقعاً على الإنترنت لنضال هذا الشعب البائس! ولنا أن نتصور كيف أن لقاء واحداً بآخر من ثقافة أخرى، وربما من دين آخر، قد كسر بسهولة حواجز بطول قرون عديدة من «الانفصال» الإنساني. وهذا بالمناسبة من فوائد الزواج المختلط والإنترنت! إن الثقافات في عالم اليوم تتقارب بسرعة هائلة مستفيدة من ثورة وسائل الاتصال والمعلومات. ولا مستقبل أبداً للمرضى العنصريين على المدى البعيد. ولا تعني هذه «المتاخمة» للثقافات إلغاء لبعضها البعض، بل تبادلا حرا ومتعة التعرف الى الآخر، وربما الأخذ عنه.

لم تكن أوروبا بالطبع ـ وطيلة تاريخها ـ قد عرفت ذلك من قبل. ويبدو أنها قد بدأت تتقبل هذا الوضع الجديد. ففي القرن العشرين بدأت تستوعب أناسا من نوع آخر! أعني بالتأكيد من ديانات وثقافات وألوان أخرى. وهو ما أحدث صدمة كبرى لدى شرائح كبيرة داخل مجتمعاتها. وفي بادئ الأمر لم يرحب حتى أكثر المنفتحين على الثقافات الأخرى، بهؤلاء الجدد إلا عبيداً، وقد كانت صور حدود الالتقاء بالآخر مقصورة على الحروب المنظمة، ثم الاستعمار المباشر. فهي علاقة سيد بتابع، قوي بضعيف. لكن ابتداء من النصف الثاني من القرن الماضي وانتهاء بأشكال الاستعمار التقليدي في العالم، وانكماش أوروبا القوة، وظهور الولايات المتحدة الأميركية على خط التماس والتأثير العالمي، بدأ الأوروبيون يتعاملون مع واقع جديد. ومن نتائج هذا التغلغل الإنساني في قلب الأوروبي أن تحول عنصري فرنسي إلى راهب أنغولي!، وسويسري حاقد على الأجناس إلى «تبتي» الهوى، إنساني الهوية. وهؤلاء في الحقيقة هم من أحبطوا مرات عديدة محاولات التيارات اليمينية المتطرفة بالوصول إلى السلطة في بلدانهم. والتصويت الذي جرى أخيراً في سويسرا على الحد من الهجرة والأجانب خير دليل على ذلك. ولي عودة للحديث عن أبعاد هذا التصويت على مستقبل هذا البلد، خاصة أن %63 قد صوتوا ضد هذا المشروع.

ما يهمنا من هذين النموذجين هو أن التربية والقدرة على التعايش مع الآخر لهما أكبر الأثر في صياغة إنسان الألفية الجديدة. خاصة أننا ـ العرب والمسلمين ـ أكثر المتضررين عموماً من تفشي الحس العنصري في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

وإذا كان ثمّة من ذنب يقع على هؤلاء الآباء العنصريين، فإننا نتحمل أيضاً جانباً كبيراً من المسؤولية. فالكثير من العرب يعيش في تجمعات طافية، عائمة، غير مندمجة. وأنا لا أتحدث عن الاندماج السلبي، لكنني أتحدث عن الاندماج الإيجابي. فليس الاندماج هو الذهاب إلى الديسكو والحانات كما قد يفهم البعض خطأ، لكنه مشاركة إيجابية في المجتمع. إنه الاحتكاك اليومي بالآخر، وبناء علاقات إنسانية، وإظهار نوع من ثقافة التسامح والحب. والتعريف كذلك بالثقافة والحضارة العربية. وكما أن الصداقات أيضاً تلعب دوراً كبيراً في زيادة مساحة التعاطف والتعايش مع ما لدى الآخر، فإن المشاركة في الحياة السياسية والانتماء للأحزاب ـ غير اليمينية بالطبع ـ والنقابات والمؤسسات الاجتماعية والإنسانية في هذا البلد أو ذاك، تترك أثراً طيباً في النفوس وتساهم في تسريع ذلك الاندماج الإيجابي. كما أنها تسهم في إيجاد مناصرين داخل هذه الأحزاب ـ إن لم نقل تيارات عريضة ـ لكل قضايانا. وانتفاضة الأقصى ليست منا ببعيدة، حيث احتجنا لكل تعاطف ورأي عام مساند! شخصياً، أعرف عشرات السويسريين من أصول عربية لم تشارك في أي عملية تصويت جرت في هذا البلد! والمصيبة أن بعض هذه «الاستفتاءات» تطال مباشرة قضايا المهاجرين وتصيبهم في الصميم في حال نجاحها! وهذا ما يساهم ـ للأسف الشديد ـ في تعزيز قناعات شرائح داخل المجتمع أن هؤلاء المهاجرين لم يندمجوا بعد في المجتمع، والأرجح أنهم لن يفعلوا، وأن حصولهم على الجنسية كان بهدف الاستفادة من بعض المزايا هنا وهناك، وإن لم تكن كبيرة على أي حال! كما أنها تشجع اليمين المتطرف على تحيّن الفرص وطرح مشاريع قوانين عنصرية، ومحاولة تمريرها، ومن ثم زيادة الشعور العام بكراهية الأجانب.

الواقع أن الكثير من هذه الملاحظات حول اندماج الأجانب صحيح للأسف الشديد. فالمشاركة في الشأن العام عموماً، والعملية الانتخابية والانخراط في الأحزاب السياسية، ليس له علاقة بالهوية والثقافة والدين، بل هي اكتساب ثقافة الحرية والديمقراطية، وهي بعد ذلك تزيد من فرص ومساحات الاعتراف من الآخر بنا، وتثبتنا كفاعلين في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلد الجديد. وفي لندن سمعنا في العام الماضي كلاما عجيبا عن تكفير المنضمين لأحزاب بريطانية، وتحريم العمل السياسي! و«ترويع» الناس من التصويت. وهذا في واقع الأمر ضحالة سياسية وحضارية ما بعدها ضحالة. فهل الدفاع عن المصالح والنفس كفر؟! وفي بلد مثل فرنسا، تشكل أعداد العرب ـ مسيحيين ومسلمين ـ بالإضافة بالطبع إلى المسلمين من جنسيات شتى، رقما انتخابيا في غاية الأهمية لو أن هؤلاء الفرنسيين العرب قد اقتحموا ساحة العمل السياسي ونظموا أنفسهم. لكن هيهات، فالأغلبية مشغولة بالتناطح على خلفية المشكلات السياسية والمذهبية لبلدان الأصول.

قد نلتمس العذر لأولئك الذين يعدون وجودهم في الغرب عابراً، سنة أو بضع سنوات ثم العودة إلى المحيط اللغوي والثقافي الأول. نلتمس العذر في عدم الانتماء للأحزاب والنقابات، لكن ليس في كل شيء. في الواقع ثمّة الكثير مما ينبغي عمله في هذا الوجود المؤقت، ليس أقل من تعلم لغة الآخر ومن ثم ثقافته وكل شيء عنه، وصولاً إلى كسب ودّه.

فالمجتمعات الغربية ليست هي وزارات الخارجية مكبرة. أما من لا نلتمس العذر له فهو تلك الفئة التي اختارت ـ أو تقريباً لم تختر مائة في المائة ـ العيش بصفة دائمة في الغرب، وفي بعض البلدان الأوروبية ـ بريطانيا وفرنسا وبلجيكا أمثلة جيدة ـ أصبح هناك ربما ثلاثة أجيال والقليل القليل من هذه الأجيال قد اقتحم في الواقع صميم الحياة. في هذه الدول إذا استثنينا الحال، فإن تأثير اليهود على قلّتهم في المجتمعات الغربية نجم في الحقيقة عن طريق انخراطهم ـ أو لنقل اندفاسهم ـ في حركة هذه المجتمعات. لكن كيف التصديق بأن قلّة محدودة من البشر يمكن لها أن تحرك ـ في واقع الأمر تتحكم ـ مجتمعات ودولاً بأسرها؟ وقبل القدوم إلى هذه البلدان والعيش فيها كان من الصعب على المرء تصديق ذلك إلاّ أن تكون كل هذه المجتمعات متواطئة، تواطؤاً كاملا. والأمر ليس على هذا النحو من البساطة بالطبع إن شخصاً واحداً في حزب، فاعلا على نحو مذهل، لم يخذل الحزب، أو حتى النقابة، أو الصحيفة، أو صاحب العمل، يوماً ما، وكان متفاعلاً على الدوام مع قضايا الحزب التي هي بالتأكيد قضايا المجتمع، أقول إن هذا الشخص يمكن له أن يدفع الحزب إلى تبني وجهة نظره، إذا ما تعلق الأمر بقضية تتعلق ببلد الأصل والحزب ذراع مهم في آلة صنع الرأي. وفي مثال إسرائيل، ليس ثمّة أصل في الموضوع، لكن «قضية» هي في واقع الأمر أكبر عملية نصب واحتيال على العالم تحت ستار ديني وتاريخي، وهكذا نجح هؤلاء طيلة نصف قرن من العمل الدؤوب ليس في تغيير الحقائق وحسب، بل في جعل الأبيض أسود، والأسود أزرق وهكذا. فنضال الشعوب من أجل استقلالها ـ وهو الأمر الذي ينطبق بالمناسبة على كل الشعوب في العالم في نظر غربي ـ يصبح إرهابا إذا ما تعلق بالفلسطينيين، والكفاح ضد المحتل يصبح دون أدنى رحمة عنفا واستهتارا، ويصبح شعار من قبيل «لا ترموا الحجر.. وسوف لن تقتلوا؟»، والمقصود هنا بالطبع الأطفال الفلسطينيون يرتفع أمامهم تمثال الحرية، وأمام البيت الأبيض، مقبولاً جداً، ومثالا على الرغبة في السلام.

أخلص من كل ذلك إلى أن العرب والمسلمين في أوروبا وأميركا وأستراليا وغيرها من بلدان العالم مطالبون بالعمل الاجتماعي والسياسي في هذه البلدان، وترك السلبية المطلقة في بعضها، وشبه المطلقة في البعض الآخر.

المطلوب الاصطفاف مع هؤلاء الأصدقاء وغير العنصريين و«التائبين» في هذه المجتمعات والعمل معهم على زيادة مساحة التسامح.

يبقى أن أشير إلى أن العنصرية أنواع، بعضها مكتوم وبعضها الآخر تجد له متنفساً وترجمة بسهولة على أرض الواقع. بعضها شرس ومزمن، وبعضها طارئ، يتعلق بحادث اجتماعي أو سياسي أو أزمة اقتصادية أو أزمة وقود. وبالنسبة للأهداف التي تعاني من هذا الداء البغيض، فيمكن القول إنها مختلفة كذلك، بعض هؤلاء الناس يتعرضون للقتل بسبب لونهم، والبعض الآخر بسبب الدين أو اللغة أو الثقافة ومرات للا شيء، لذا فقد نجد عنصريا ضدنا نحن العرب لكنه ـ على سبيل المثال ـ ليست لديه مشكلة مع الأفارقة؟، وقد يحدث العكس، وقد نتوقع من هذه النفوس المريضة كل شيء.

إن الإسلام دين التسامح والإخاء والمحبة، ولقد جاء ليضع حداً لكل تفرقة بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الثقافة. لذا فإن مَن في نفسه ذرة من كِبر أو غرور لا يكون مؤمناً حقاً. وحريّ بنا أن نكون في مقدمة الأمم في الدعوة إلى التسامح والمساواة وحقوق الإنسان وكرامته.

وأدعو هنا الآباء والأمهات والأسرة بصورة عامة، إلى تجنيب الأطفال العبارات التي تشي بعنصرية، وتمييز ضد أي أحد، كائنا من كان، حتى نوفر على أبنائنا سنوات طويلة من البحث عن الطمأنينة في ظل الإنسانية، بعد تورط في وحل العنصرية مثلما حدث لهذين الأوروبّيين التائبين، ومثلما اعترفا بشجاعة نادرة بماضيهما غير الإنساني، أرى أن يراجع كل منا نفسه، ويبحث عن المناطق «النائية» في غابته العقلية والروحية، إن كان ثمّة أشجار للكراهية قد تطاولت، فيقتلعها، ويغرس بدلا منها أشجارا للحب والتسامح والإيمان وقراءة كلام اللّه «القرآن الكريم» الذي فيه شفاء للنفوس، فنحن العرب لا تخلو نفوسنا من «كراهية» بعضنا البعض!!

* كاتب كويتي