لا ترتكبوا جريمة تفتيت الأوطان

TT

هذا الخطاب بواو الجمع وبصيغة العموم يتوجه إلى جميع الأطراف الخارجية التي تعتمد سياسة تمزيق الوطن الواحد وتقسيم أرضه إلى كيانات مُفتعَلة، وإلى تلك التي تنشَقُّ في الداخل على وطنها وتتمرد على سيادته ووحدته، وتطمح إلى اقتطاع طرف منه لتقيم عليه كيانا هشّا مهزوزا وغير قابل للاستمرار، تقنع بمحدوديته مقابل حكمه والسيطرة عليه ولو لمرحلة موقوتة، وبصرف النظر عما ترتكبه في حق وطنها الواحد من جريمة التقسيم بما تحمله من مخاطر.

كان العهد الاستعماري الذي انتهى بتأسيس منظمة الأمم المتحدة سنة 1945 يقوم على مبادئ لا أخلاقية شتى، من بينها تجزئة الأوطان المستعمرة وتقسيمها وتفريقها على نظم مصطنعة عملا بقاعدة «فرق تسُدْ»، ليسهل تطويعها على انفراد، ويصبح كلُّ منها مدينا بالوجود للقوة الاستعمارية التي كانت وراء خلقه واصطناعه.

وعندما أخذت هجمة الاستعمار تنحسِر، ولاح في الآفاق الدولية أن الاستعمار دخل في عده العكسي للرحيل، بادرت بعض الدول الاستعمارية إلى تقسيم الكيانات الكبرى المستعمَرة إلى أوطان صغيرة لا تملك مقومات الوجود، ولم ترحل عن مستعمراتها إلا بعد أن تركت لها حدودا مفرِّقة بينها. وهو ما أصبح يُدعى بمعضلة «الخلاف على الحدود بين جيران المستعمرات السابقة».

فرنسا ـ مثلا ـ كانت تقتطع من حدود المغرب الشرقي أراضي وتضمها إلى الجزائر، لأنها كانت ترى أن الحماية التي فرضتها على المغرب مؤقتة، وأن استعمارها دائم للجزائر التي كانت تقول عنها إنها جزء لا يتجزأ من التراب الفرنسي، وتُطلق عليها اسم «المقاطعات الفرنسية الثلاث». فما اقتطعته فرنسا من المغرب وضمَّته إلى الجزائر كان لفائدة فرنسا التي كانت تتوهم أن وجودها الاستعماري على أرض الجزائر دائم خالِد.

وعندما سقطت الأمبراطورية العثمانية الإسلامية إثر ارتكابها خطأ الانضمام إلى ألمانيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى، قضت جبهة الحلفاء المنتصرة في الحرب على الأمبراطورية الإسلامية وجزأت تَرِكتها في العالم العربي إلى أوطان يتبرأ التاريخ والجغرافيا من تجزئتها، لكنها أريد لها أن تضعف وتتفرق لتصبح غير قادرة على مناهضة الوجود الإسرائيلي الذي زُرِع في قلب المنطقة بمخطط استعماري رهيب.

وابتدأت لعبة تقسيم المنطقة العربية بالقرار الأممي رقم 181 الذي جزأ فلسطين العربية الواحدة إلى ثلاثة أجزاء: منطقة يهودية، وأخرى عربية، وجزء ثالث هو القدس التي أخضعها القرار للتدويل.

أما قارة إفريقيا فقد تركها الاستعمار الدولي عند رحيله عنها قارة ممزقة الأوصال تقوم عليها نظم مشاكسة يحارب بعضها بعضا أو يوجد كل منها في حالة حرب مع جاره، أي أخيه أو عمه، أو حتى والديه. وكان التقسيم أحد عوامل تخلفها.

وعندما نشأت منظمة الوحدة الإفريقية بأديس أبابا سنة 1963 كانت المعضلة الكبرى التي واجهتها هي مشكلة الأوطان المقسَّمة وما تولد عنها من مشاكل الخلاف على الحدود بين الجيران. وانكبت المنظمة على علاج هذه المعضلة الكبرى سنوات دون نجاح. وأخيرا عملت المنظمة بقاعدة «كم من حاجة قضيناها بتركها»، فأوصت في قرار اتخذته بإبقاء الحدود الاستعمارية على حالها لأنها مشكلة لا حل لها. وهكذا صدق على الاستعمار البائد وصفه بالحاضر الغائب، إذ «ذهب وترك مسمار جحا».

واليوم نعيش محاولات للعودة إلى جريمة تقسيم الأوطان التي كان المفروض أن لا يُعاد إليها، لأن الاستعمار صانعها قد ولَّى إلى غير رجعة لكنه يبدو أنه ـ للأسف ـ خرج من الباب، ويريد العودة من النافذة.

ها هي إسرائيل لا تقنع بالتقسيم الدولي الذي أُخضِعت له أرض فلسطين العربية بمقتضى القرار الأممي سنة 1947 والذي كان حيفا صارخا للفلسطينيين الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان فلسطين ويوجدون فوق رقعة ترابية شاسعة، بينما كان اليهود أقلية محدودة، لكنهم أخذوا في التقسيم الظالم أكثر من نصف فلسطين.

وقد خاضت إسرائيل حربا توسعية لفرض تقسيم أكبر للأراضي العربية، ولا سيما في عدوان يونيه/ حزيران سنة 1967. وأعلنت أن الأراضي التي استولت عليها بالقوة جزء لا يتجزأ من ترابها. وضمت بعضا منها إلى ترابها بقرار من «الكنيست» الإسرائيلي إمعانا في تقسيم الأراضي العربية وتفتيتها.

إن ما «تنازلت» عنه إسرائيل بمقتضى أوفاق أوسلو لم تلبث أن استولت عليه من جديد بقوة الحديد والنار. وهي تطمح إلى أن تحتفظ به إلى الأبد لتكريس تقسيم خططت له بكل عناية ماكرة، مراهنة على الزمن حتى تُنسى بالتقادم قضية احتلالها لأراضي الغير.

وحتى عندما تنضج نادرا في ذهن إسرائيل فكرة الاستجابة الخادعة لضغوط المجتمع الدولي عليها لرفع الاحتلال تعتمد التقسيم كمبدأ وأسلوب. فتقدم حلولا عرجاء بأن يكون انسحابها على مراحل يبتدئ من مرحلة «غزة أولا» على غرار ما كانت فرضت على فلسطين قبلُ في بداية محادثات أوسلو من بسط الحكم الذاتي على «أريحا أولا». وهكذا تتوالى ألحان التقسيم (على وزن تقسيم الغناء) على لسان إسرائيل وتعزفها في نغمة نشاز لا يطرب لسماعها إلا عازفها.

والهجمة على العراق التي يُنذِر بها ويُخَطِّط لها البيت الأبيض تستهدف الاستيلاء على نفط العراق، وتقسيمه إلى كانطونات عرقية ودينية ومذهبية وطائفية لتبقى إسرائيل وحدها الدولة العملاق في المنطقة.

يبدو أن نغمة التقسيم ستعزف سانفونيتها أيضا في أرض السودان، هذا البلد الزراعي الكبير الذي يملك من القدرات ما يؤهله ليكون مخزن العالم الزراعي. إنه هو الآخر يراد تقسيمه إلى كيانين: جنوبي وشمالي، مسيحي ومسلم، لأن القطبية الأحادية التي تسود العالم الآن تتخوف على المستقبل من الكيانات الكبرى. إن تقسيم السودان إذا تم ـ لا قدر اللّه ـ سيكون تكريسا لتقسيم العالم العربي الذي يتألف من كيانات فسيفسائية مختلفة عاجزة عن تدبير أمرها بقرار واحد، أو توجه واحد.

وآمل أن لا تقتصر أوفاق «ماشاكوش» التي أُبرِمت بين الرئيس السوداني عمر البشير والزعيم الجنوبي جون قرنق على إيقاف الاقتتال الذي استمر 19 سنة، وأن لا يفضي إلى تقسيم السودان الواحد إلى شمالي وجنوبي، أو إلى مسلم ومسيحي. فهذا أسوأ الحلول ولن يؤدي إلى الاستقرار والسلام، وإنما سيكون قنبلة موقوتة لا تلبث أن يتَّقد فتيلها لنسف السودان بكامله: شماله وجنوبه.

إن تجارب النظم السياسية العالمية حافلة بالصيغ الدستورية السياسية الصالحة لحل مشكلة انقسام الوطن الواحد ويمكن الاقتباس منها وتطبيق نمط منها لحل المشكل السوداني. وفي طليعة هذه الصيغ إقامة نظام ديمقراطي لا مركزي يُشيع السلطة الوطنية ويوزعها على تنظيم جهوي يدير شؤون الجهة بمرونة، ولكن في نطاق الوحدة الترابية والسيادة القومية غير القابلة للتجزئة والتقسيم.

يمكن للسودان أن يعتمد نظاما رئاسيا يكون على رأسه قائد مسلم، وعلى رأس نيابة الرئيس قائد مسيحي، وأن تتألف حكومة الخرطوم من هيأة وزارية تمثيلية تعكس واقع المجتمع السوداني بفصائله العرقية، وتوجهات معتقداته.

وفي المغرب العربي تريد الجزائر أن تقسم الصحراء المغربية بينها وبين المغرب، وأن يُعطى لحركة المغاربة المنشقين عن وطنهم المتمردين على سيادة بلادهم ووحدة ترابها نصيب من الأرض يُقام عليه كيان صحراوي مصطنع تابع للجزائر أو حليفٌ لها غير مشروط.

وهذا مشروع استعماري خطير يستغرب الجميع أن تباركه وتشجعه الجزائر بلاد المليون شهيد الذين سقطوا في معارك تحرير الجزائر من الاستعمار، لتنشأ بعدهم دولة جزائرية موحدة وقوية وذات سيادة كاملة على ترابها الوطني، علما بأن المغرب الذي استقل قبل الجزائر بسنوات لم يبخل على الجزائر بالمعونة المادية والمعنوية وباسناد ظهرها في معركتها البطولية، وأن المغرب المستقل عارض تقسيم الصحراء الجزائرية الذي كانت تروِّج له فرنسا في ذلك الحين.