الحرب على العراق تعمق انقسام الغرب

TT

تنتهي اجازة الأسابيع الأربعة التي أعطاها الرئيس الأميركي بوش لنفسه في 11 سبتمبر.. أي في يوم الذكرى الأولى للعملية الإرهابية التي يتفق الجميع على أنها غيرت مجرى استراتيجية الولايات المتحدة وعلاقاتها الدولية. وخلافا لما «تنبأ» به بعض المراقبين، أي توقيت الهجوم الأميركي على العراق مع هذه الذكرى الأولى، (إلا إذا طرأ جديد)، فإن الرئيس بوش لم يتخذ بعد، قرار الهجوم العسكري على العراق، وان السبب الرئيسي لإحجامه هو اصطدامه بمعارضة معظم، إن لم نقل كل الدول الكبرى والمتوسطة، الغربية والشرقية، ولا سيما الإسلامية والعربية.

غير أن الرئيس الأميركي حرص، قبل ابتداء اجازته، على تأكيد تصنيفه العراق كدولة من دول «محور الشر»، واعتبار صدام حسين خطراً على جيرانه وعلى السلام وعلى سلامة وأمن الولايات المتحدة. كما أكد تصميم الولايات المتحدة على الإطاحة به بشكل أو بآخر، ولكنه احتفظ لنفسه بتحديد موعد التنفيذ.

ولكن إذا كان الرئيس الأميركي أعطى لنفسه اجازة صيفية فلا يعني ذلك ان الإدارة الأميركية، وعلى الأخص خبراء البنتاغون والسي آي ايه، ليسوا، الآن، في صدد دراسة كل الاحتمالات العسكرية وغير العسكرية لضرب النظام العراقي، بعد بروز كل تلك العقبات الدولية والإقليمية، السياسية والعملانية، التي حالت دون تكرار سيناريو الحرب الافغانية في العراق. وليس مستبعداً، وإن كان صعباً، توصل الأمم المتحدة مع العراق، قبل انتهاء اجازة الرئيس بوش، (أو إقدام الرئيس العراقي على خطوة مفاجئة)، الى حل جديد لمشكلة المراقبين، يطوي صفحة العملية العسكرية الأميركية المخططة لضرب العراق، والإطاحة بنظامه.

ولكن بصرف النظر عن هذه الهجمة الأميركية، المقررة والمؤجلة، على العراق، والتي تعتبرها واشنطن ضرورية، بل وأساسية في حربها على الإرهاب، بدأت ترتفع في الغرب أصوات تحذر من هذا الاتجاه الجديد للسياسة الأميركية في العالم، وهي سياسة تتناول، تحت عنوان «الحرب على الإرهاب» لا المواقف السياسية الأميركية من المشاكل والأزمات الدولية فحسب، بل الأسس والمبادئ التي ترتكز عليها الديموقراطية الغربية، وربما الحضارة الغربية التي تشن الولايات المتحدة الحرب على «الإرهاب الإسلاماوي» ـ كما تسميه ـ من أجل إنقاذها من خطره.

لقد أصبح التركيز على مقاومة الإرهاب الشاغل الأول للرئيس الأميركي وللإدارة الأميركية. وبالرغم من تعاطف معظم دول العالم مع الولايات المتحدة حول مبدأ مقاومة الإرهاب، فإنها لم تجعل منه شاغلها الأول ومحور علاقاتها الخارجية، ولا سيما مع الدول العربية والإسلامية الخمسين. فلا روسيا ولا الصين ولا اليابان ولا الهند ولا ألمانيا ولا فرنسا ولا الدول العربية والإسلامية الصديقة للولايات المتحدة تريد حرباً على العراق، وإن كانت «لا تحمل صدام حسين في قلبها»، وتتمنى تحرير العراق من نظامه. والمسألة، في نظر القادة السياسيين والمفكرين والمعارضين ولراديكالية الموقف الأميركي من العراق، ليست مسألة حرب وقتال من شأنهما تغيير نظام حكم أو تغيير خريطة الشرق الأوسط، بل مسألة حق دولة، أيا كانت، في شن حرب على دولة أخرى، دون موافقة المجتمع الدولي مباشرة أو الدول الكبرى، أو بقرار من مجلس الأمن. انها نهاية القانون الدولي والاعراف الدولية السائدة منذ خمسين عاما، على الأقل.

وأخطر من تجاوز الولايات المتحدة لهذا الخط الأحمر الذي رسمه ميثاق الأمم المتحدة، هو سن كل تلك التشريعات التي تقيد حرية الإنسان وحقوقه في الولايات المتحدة وتصنيف مليار من البشر «كمشتبهين» أو كمرشحين للإرهاب. فخوف الديموقراطية الأميركية من خطر الإرهاب عليها يجب ألا يقود، كما قال أكثر من مفكر غربي، إلى فرض قوانين وتدابير حماية على المواطن الأميركي ـ وعلى الغرباء العائشين فيها ـ تعطل، في النتيجة، الحرية والديموقراطية. كما أن تغيير الحكومة الأميركية لسياستها الدفاعية واستراتيجيتها العسكرية في العالم، نتيجة لأولوية الحرب على الإرهاب، من شأنه أن يؤثر على سياسات كل الدول الدفاعية والاقتصادية، لا سيما الدول الكبرى والدول الغربية. فهل ستتفق مصالح الدول الأوروبية، حليفة الولايات المتحدة طوال خمسين عاما من الحرب الباردة ضد «الخطر الشيوعي ـ السوفياتي»، مع هذه السياسة الدفاعية الأميركية الجديدة، التي أحلت الخطر الإرهابي، و«الإرهاب الإسلاماوي» محل الخطر الشيوعي؟

فرانسيس فوكوياما، «الغورو» الفكري السياسي الأميركي الآخر، مع «هنتنغتون»، وصاحب نظرية «نهاية التاريخ»، كتب منذ أيام مقالا بعنوان «تفكك الغرب»، يقول فيه إن «الإسلامية» (ويعني بهذه العبارة الراديكالية الإسلامية المعادية للغرب والمعتمدة على العنف والإرهاب لمقاتلته)، لا تشكل التحدي الجديد للغرب بعد الشيوعية، فحسب، بل انها تحد للمسلمين أنفسهم. ولكن المشكلة الجديدة التي طرحت بعد 11 سبتمبر، هي في السؤال التالي: هل ستبقى العولمة والديموقراطية والحداثة محور المبادئ الأساسية التي يؤمن بها ويدعو إليها الغرب.. أم ستصبح سياسة الولايات المتحدة الجديدة، أي الحرب على الإرهاب، هي محور السياسة الدولية للغرب؟ ولا يخفي فوكوياما خوفه من انقسام الغرب حول هذه المسألة الى غربين: أميركي وأوروبي. فأوروبا وقفت مع الولايات المتحدة في حربها ضد النظام الشيوعي وديكتاتورية الحزب الواحد، ولكن العولمة احدثت صدعا بين الغربيين الاوروبيين والاميركيين. وها هي استراتيجية أولوية الحرب على الإرهاب تحدث شقا أعمق بين الدول الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية، بالاضافة الى المواقف الاخرى التي راحت واشنطن تتخذها منذ 11 سبتمبر، من بروتوكول كيوتو وميثاق ريو ومعاهدة الصواريخ النووية وبناء الدرع الصاروخي، وهي مواقف انتقدتها الحكومات الغربية الاوروبية ولم تخف معارضتها لها.

ويطرح فوكوياما في نهاية مقاله عدة أسئلة حول انقسام الغرب على نفسه بعد 11 سبتمبر واتباع واشنطن لسياسة أولوية مقاومة الإرهاب في استراتيجيتها العالمية، فيقول إن المشكلة الجديدة بين الغرب الاوروبي والغرب الاميركي ليست «حول مبادئ الديموقراطية الليبرالية» بل «حول الأصول التي ترتكز عليها» هذه الديموقراطية. فمصلحة الدولة تتقدم، في المفهوم الاميركي الراهن لها، على المبادئ الليبرالية الدولية التي لا وجود لها إلا إذا قبلت الدولة ـ الأمة بها ومنحتها بهذا القبول شرعيتها. اما الاوروبيون فإنهم يؤمنون بأن شرعية الديموقراطية تنبع من ارادة المجتمع الدولي التي تتقدم على مصلحة الدولة ـ الأمة. حتى ولو لم يكن هناك جسم أو هيئة تتجسم فيه هذه الإرادة ـ الشرعية الدولية. ويضيف: ان الأميركيين يعتقدون اليوم بأن الخطر الأول الذي يهددهم هو حصول الارهابيين الاسلاميين على اسلحة دمار شامل يهددونهم بها في عقر دارهم، بينما لا يشاركهم الاوروبيون في هذه القناعة ويعتقدون أن تصحيح سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من شأنه أن يخفف كثيرا ـ ان لم يقض ـ على الخطر الإرهابي. وفي الحقيقة، فإن الخلاف ليس بين الرئيس بوش والحكومات الأوروبية، بل حول شرعية ومرتبة الديموقراطية في الحضارة الغربية. هذا ما يقوله صاحب نظرية «نهاية التاريخ»، وما يردده كثيرون من مفكري الغرب. ولكن ما يقوله مفكرو «راند كوربوريشن» وما قاله كيسنجر مؤخراً عن ضرورة إنهاء حكم صدام حسين قبل حل النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، يعبر عن وجود تفكير وتيارات وخيارات عسكرية واستراتيجية اخرى في واشنطن، وان صوت اسرائيل ما زال مسموعاً، لسوء الحظ.