حرب المنتديات... غرنيكا الإلكترونية (1 ـ 4)

TT

«كانت مـتعـتي هي المتابعة الدقيقة لما ينشر في المنتديات العربية. هناك بعض الأخطاء، لكن النهاية ستكون سعيدة على أية حال، ما دام كل فرد ينهض صباحا وينقل صوته إلى الإنترنت. رأيت ُ في المنتديات ما يدفعني للتفاؤل والحماسة، فالظاهرة في صميمها تستحق التشجيع».

«الإعلام طبقات، والإعلام الالكتروني احدى طبقاته، إلا أن المنتديات في الطبقة السـفلى منه، لا علاقة لها بالصحافة الورقية ولا الالكترونية. في المنتديات أنت في مدينة أشباح، أناس ٌ تكتب لا أحد يسألها وأسماء مستعارة لا تعرف من خلفها. جماعات تحاول اختطاف الإنترنت لمصلحتها وامتلاك كل المساحات، وهناك الليبراليون وهم أكثر ضيقا ً بالآخر وأشد تحجرا في آرائهم».

في مستوى الوجود الالكتروني، وكما تتحرك المعلومات والثروات بسرعة خاطفة، فإن المشاعر الإنـسانية والآراء والمواقف أصبحت تتغير بذات الايقاع المتسارع والمتحول. قليل من المـعرفة الالكترونية وأكثر قليلا ً من الخبرة الإنسانية تصنعان» الحـَـدَث الإنترنتي «الصادر من الإنسان والموجه إليه. وبينما لا يزال الإعلام العربي التقليدي ينشر التحقيقات، التي تتحدث ببهجة ساذجة ومنطق سطحي عن الإنترنت كوسيلة» حقن معلوماتي «يسري في اتجاه واحد، فإن رواد الإنترنت يعرفون تماما ً أنها خدمة تفاعلية تعطي أي شخص فرصة للتأثير على الآخر، عبر برامج المحادثة الفورية أو المواقع الشخصية، أو الـبريد الالكتروني أو المنتديات، وهذه الأخيرة، وتحديدا ذات الأغلبية السعودية، تمر بحالة طفور وفوران منذ أحداث 11/9/2001 وما أعقبها، ويختلف تقييم أدائها من شخص لآخر، مراوحة بين الحمـاسة والتفاؤل، كما في المقتطف الأول في مبتدأ الكلام، أو السخط والرفض، كما في المقتطف الثاني، لكن المفاجأة الصغيرة عميـقة الدلالات هي أن كلا الـمقتطفين هما لشخص واحد هو الناشر والصحافي السـعودي «ثمان العمير، والفاصـل الزمني بين الرؤيتين عام واحدٌ، وتجربة بدأت بما يفــترض أنـه (حرص على الحقيقة، بحث عن الآفاق، وتجوال باتجاه المطلق) وانتهت بانغـماس الأصابع الإلكترونية في وعاء «الشمع الأحمر»، الذي نعرف ونألف منذ وقت قديم، والذي طالما لجأنا إليه في مواجهة كل تجربة جديدة نعجز عن ضبطها. المواقف من تجربة المنتديات لا تخرج عن التأييد الحماسي أو الازدراء أو طور التجريب، بينما الـممارسة قد نضجت بما يسمح بتفكيكها وفهمها بطريقة حرة وبغير ما استناد للمزاج الشخصي، خصوصا أن الأحداث التي تعاقبت منذ 11/9 وحتى اليوم، وضعت المنتديات قريبا من صناعة الخبر. وعندما نتحدث عن المجتمع السعودي فإنها توشك أن تكون في المركز من وسائل الإعلام القليلة المتاحة أمام الفرد لاستقبال الأخبار والأحداث الساخنة التي تجري في خلفية التغطية الرسمية والتعليق عليها. قد لا تدعم الحقائق الرقمية هذه الرؤية، إذا وضعنا في الاعتبار أن خدمة الإنترنت لم تكن متاحة في السعودية قبل عام 1998، وأن عام 2001 انتهى وعدد مشتركي الإنترنت يبلغ 450 ألف مشترك، وهو ما يعني وجود قرابة مليون مستخدم يشكلون نسبة 5.2 في المائة فقط من المواطنين، وان تكاليف الخدمة مرتفعة جدا في السعودية مقارنة بكونها مجانية في الإمارات ومصر، الأرقام المحدودة والضئيلة تقوّض أي فرضية تقول بمركزية وحيوية دور الإنترنت في الحياة العادية للــفرد، لكن الوقائع والـظروف تقول غير ذلك... لم تعد المنتديات على الإنترنت بعيدة عن الحياة العادية اليومية، مـُـذ صار بالإمكان أن نستيقظ صباحا في أوائل مايو على خبر طالبات الثانوية العامة العـشر في مدينة الدمـّام شرق المملكة، واللائي تعرضن للعـقوبة بسبب دخولهن إلى منتدى على الإنترنت بأسماء مستعارة، وتذمرهن علنا من نظام مدرستهن الثـانـوية، وقد تمكنت إدارة التعليم، لاحقا،ً من نسخ المحادثة وتعـقب الطالبات وكشف هوياتهن ومعاقبتهن ثم العـفو عنهن، لاحقا، بسبب الجدل الساخن الذي اثارته الحادثة في المنتديات. ثمـّـة أطراف ٍ تقليدية في القصة، هي الرقيب والمـُـرَاقـَـب، واطراف مستجدة تتمثل في إعلان هؤلاء الشابات عن آرائهن بشأن المؤسسة التعليمية، وتراجع ذات المؤسسة عن مجازاتهن بسبب ضغط الرأي العام الالكتروني، وبين هذه الأقطاب القديمة الجديدة تدور كل القصة. الاسم... الدلالة لا أعرف ُ تحديدا ً من الذي اختار أن يطلق اسم منتدى على هذا النوع من النشاط الالكتروني، لكنه نعت دقـيـقٌ جدا ً فيما أرى.. كلمة منتدى، في اللسان الفصيح تعني «مجلس»، والمجلس مكان مثالي لمخاطبة الآخرين مشافهة.. والواقع أن جـُـل ما يدور في المنتديات لا يخرج عن كونه تدويـنـا لمحادثات شفهية لا أكثر، ولمـّـا تصعد الكتابة بعد الى الحقيقة، يقول لك أحدهم «أنا أكتب في منتدى» والأولى أن يقول «أنا أتكلم في منتدى»، وكما تكلمت عشر طالبات في الساحل الشرقي يتكلم الآخرون. أعضاء المنتديات ينقلون عن الصحافة المحترفة عناوينها الكبرى ومقالاتها وتحليلاتها، ويهوون فجأة إلى الأزقة ويلتقطون حادثة ثانوية في مدينة ترفيهية ويرفعـونها إلى مصاف الخبر. ينتقدون سير العمل في إدارة حكومية ما، ويناقشون السياسة الخارجية. يذيعون أخبارا ً مغلوطة ويـُـصـَـوّبون أخرى، ويفبركون ثالثة. يفسرون الأحلام على ضوء الحدث السياسي ويـُـؤولون الحدث السياسي حسب كتاب «ابن سيرين». تمتد علاقاتهم الشخصية إلى المستوى الالكتروني، ويسحبون علاقاتهم الالكترونية إلى الـمعرفة الشخصية. يمر الوقت فيصنعـون لغة رمزية مفهومة بينهم و«يصكـّون» اصطلاحات تميزهم. يميلون إلى مرجعية معينة ويكتسبون موقفا جماعيا من الأشياء ويتضامنون مع أو ضد. يتبادلون التهانـي والعزاء و(الحمد لله على السلامة). يجرون مقابلات مع بعضهم، ويستيقظون فجـأة ليعـوا ونعي معهم حقيقة أن المنتديات تنوب في مخيلتهم عن كل البقاع الحرام في الأرض والسماء وعلى الإنترنت، وان «المنتديات» نظام ٌ يتخلـّـق في المجتمع السعودي موازيا لنظام الدواوين في الكويت، أو المقاهي في مصر.. ويصير الكوغيتو المـَـحـَـلـّي هو: «أنا أتــكلم في منتدى.. أنا موجود». لهذا الأسباب بالذات اتجهت شخوص إعلامية واجتماعية سعودية للإمساك بطرف من بـِـساط المنتديات، بالكتابة والإشراف والاستثمار. وللدكتور محسن العواجي تجربة منتدى الوسطية، الذي لا يزال صامدا. وللدكتور تركي الحمد تجربة لا تزال غامضة المـآل حتى هذه اللحظة. أما تجربة «إيلاف» لعثمان العمير، فقد تم حسم أمرها وألـغـِـيـَت تماما بقرار شخصي ومباشر من الناشر ذاته، بعد أن حـُـجـبت عن المتصفحين في عدة دول بسبب كتابات الأعضاء. تعددت أسباب الـبقاء والانتفاء، وتوحدت في قدرة الإشراف في كل منتدى على تحقيق درجة عالية من الضبط، وعلى وضع معايير رقابية عادلة يلتزم المنتدى بها. نفهم آنذاك لماذا انتهت تجربة مثل «إيلاف»، إذا عرفنا أن ّدستورها المكتوب كان يتعهد بـ«أن الحوار فيها لا يحده إلا الالتزام بقواعد التعامل الخلاّق، واحترام المـُـحاور، وتقدير المعتقدات التي فطر الله الإنسان عليها، ولن يسمح لأحد بـِـمس الأشخاص، الأديان، الأوطان، الأعراق والجنسيات». لكنها عادت وفرّطت في هذا الدستور الجميل، فأسقطت ذاتها بطريقة نموذجية تـُجـَـسـّـد ارتباك كـُـتـّـاب ومشرفي المنتديات أمام الحرية الجديدة. يتورط مشرف المنتدى غالبا إما في هيْبَتِه مـس عـنقاء الحرية وتقييدها، أو في اعتصامه بقوقعة الرقيب الرسمي الذي يمنع أكثر مما يجيز، أو في لجوئه لتحويل المنتدى ببساطة إلى غرفة في منزله يفرض فيها معاييره ومزاجه ورؤيته الشخصية للحقيقة والصواب. أما من يكتب في المنتديات، وتحديدا من ينتمي إلى طراز «مـُـحـْـدِث الحرية» على غرار محدث النعمة،.. فإما أن يفهم حريته على أساس أنها كتابات تجديفية وهرطقات جاهلية وخمريات وعربدة فارغة، أو على انها نداءات همجية بإبادة سكان الـــعالم الخارجي أجمعين، أو كمجرد دردشات صبيانية تتفنن في صناعة البذاءة.. لهذا تكاد عــلاقة كـُـتـّـاب المنتديات تكون متوترة مع كل شيء: مع مشرف المنتدى، مع الأعضاء الآخرين، مع المنتديات الأخرى التي تمثل تيارا مختلفا، ومع مدينة الملك عبد العزيز التقنية، ومع الصحافة الاحترافية التي يعتقدون انها تفتقد للمصداقية التي يزعمون امتلاكها، بينما تبادلهم الصحافة ذات المشاعر «الوديـة» من طرفها، فيرى الصحافيون جلهم أن ما يجري في المنتديات عمل غير مسؤول وفوضى، أو على حد تعبير توماس فريدمان «مزبلة الكترونية».. لكنها في الواقع أكبر بكثير من أن تكون مجرد مزبلة، لأنها الطريقة الأسرع للتأثير على المواقف والمشاعر والأفكار. المنتديات اداة استقطاب وإقصاء وحشد ونـَـفي، ووسيلة «أدلـَجـَـة» عنيفة للغاية، وفي ذات الوقت هي وسيلة استلاب من الهوية والواقع الاجتماعي والوطني، تستخدم أسلوب الـصدمة وسياسة القوة الضاربة، إنها الورقة الرابحة التي ينكر الجميع حيازتها بينما يقتتلون في الخفاء من أجل السيطرة عليها، ولكن....

أصوات مغايرة ... لكن وراء حرب المنتديات، التي تشبه لوحة «غـرنيكا» لبيكاسو، والمـُـعبرة بامتياز عن فـقـر الخيارات في العالم الجديد، المسجون داخل نظرية الفسطاطين، أو (معي/ ضدي) حسب ثقافة الكاوبـوي، وريث بطولات «جــون واين» في مـطاردة الأباتـشي وإفـناء قـطـعان الـ(بافالو) دون حساب للكون والطبيعة، ثم الاحتفال بـمجد الذات، وحـُــمـّــى الأنا والنـّصـر البـرّاق، بينما ينغمس الأباتشي الحزين حتى شعره المـُـرسـل في ماء الموت، وفي تقديس فـِـكر الفناء. وراء الغرنيكا الإلكترونية هذه، ثمـة مكان للخزامى والعـشار رغم أنـف التصحر، وبين وقت وآخر يخرج من هنا، أو من هناك، قلم يمارس أرقى فنون الكتابة، كان مختبئا أو مكبوتا أو مـُـروّعا من مساس الخطوط الحمراء، لكنه.. ومن خلال المنـتديات يزهر بعد أن ظل كامـنا في برعمه دون أن يموت، وكانت قطرة واحدة من غيث الحرية تكـفيه للحياة.. بين وقت وآخر تخرج أقـلام غير معنيـّــة بـِحركة الأدلــجة والاستلاب.. ترتفع تحت الضياء بـسكـون، متحـررة من ثقل الــهـوية والمعايــير الاجتماعية والقوالب، تعبـّـر عن إنسانيتها بطريقة شـديدة الواقعية والحـقيقية والعمق، تكتب وتتخيـل وتـؤمـن وتتـخـلـّـق وتتـأهـب للــحيـاة والتغيير والفرادة، تنظر إلى العالم بعين جديدة شجاعة، من أجـل هذه الفئة يجب أن نأخذ تجربة المنتديات على محمـل الجـِــد، ومن أجل هذا.. سأخصص الحلقات التالية لدراسة نماذج من تجارب المنتديات وتوثيق مرحلتها الآنية، عسى أن تكون النهاية.. سعيدة.

[email protected]