لننسَ صليبية أوربانوس الثاني ونتذكر مسيحية يوحنا

TT

بقيت العلاقات بين الشرق والغرب، منذ القدم وحتى اليوم، تتقلب بين الحروب الدينية ومحاولات السيطرة والاخضاع. ولعبت الكنيسة الكاثوليكية، منذ القرون الوسطى، دورا ايمانيا يحمل في طياته مشروعا سياسيا واقتصاديا وحتى عسكريا. وعندما عبرت جيوش المسلمين جبال البيرينيه لأول مرة ووصلت الى جنوب فرنسا عام 732، دب الذعر في قلوب الاوروبيين، وتشكلت في اذهانهم صورة نمطية عن هذه الامة العتيقة التي تسعى الى تدمير المسيحية. وفي عام 1095، وقف بابا روما أوربانوس الثاني محذرا من هذا الخطر الداهم، داعيا الى «الجهاد المقدس»، واعدا المقاتلين المؤمنين بالغفران والحياة الابدية. وكانت هذه الدعوة مؤشرا لانطلاق الحملات الصليبية الاولى، وما رافقها من ويلات وحروب ودمار، امتدت حتى عام 1291 موعد انكفاء الفرنجة الى داخل أوروبا. لكن سقوط الامبراطورية البيزنطية على ايدي العثمانيين عام 1453، ومحاصرتهم لمدينة فيينا عام 1529، أديا الى تزايد الخوف في الغرب المسيحي من التوسع الاسلامي، وترسيخ الروح العدائية تجاه الاسلام، حيث اصبحت عبارة «الاسلاموية» مرادفا للخطيئة، مما يذكرنا بمواقف مارغريت ثاتشر وجون اشكروفت وغيرهما من الذين اخذوا يحرضون على الاسلام والمسلمين، ويشوهون الحقائق ويزرعون بذور الحقد بعد احداث 11 سبتمبر.

منذ القرون الوسطى وحتى ايامنا هذه، كانت نظرة الغرب الى الشرق نظرة فوقية استعلائية، بدءا من «اغنيات المآثر» وانشودة انطاكية، التي عملت على تحريض المسيحيين الغربيين على القتل والثأر، خلافا لدعوة السيد المسيح عليه السلام، الذي نادى بالغفران والمحبة والتسامح، وتحت ستار «الجهاد المقدس»، حاول الفرنجة احتلال الشرق بأسره والاستيلاء على خيراته وثرواته، واقتسام الامبراطورية البيزنطية المسيحية المشرقية. وفي عام 1535 اتجه غليوم دو بوستيل نحو الشرق في عداد بعثة استطلاعية ارسلها الملك فرنسوا الاول الى اسطنبول، ودعا بعد عودته الى فرنسا الملوك المسيحيين الى «ايجاد الوسيلة الفضلى لاحتلال الشرق والسيطرة على مصادر غناه». وبقيت نظرة الغرب الى الشرق نظرة فوقية بالرغم من ان الشرق استحوذ على عقول الغربيين في فترات متقطعة، وكان محط اهتمام الادباء والمفكرين. ولم يكن الهدف من مسرحية «البورجوازي النبيل» لموليير، ومسرحية «بايزيد» لراسين وغيرهما في القرن السابع عشر، الا التهكم على مجتمع شرقي ذكوري عنيف. ولم يتردد كبار الكتاب في القرن الثامن عشر، من امثال فولتير ومونتسكيو وفولناي، في التحامل بشدة على الشرق القاصر والدعوة الى احتلاله. واتت حملة بونابرت على مصر في عام 1798 متأثرة بهذه الكتابات، فكانت بذلك أول مغامرة استعمارية فعلية. وفي مطلع القرن التاسع عشر اصدر شاتوبريان كتابه «عبقرية المسيحية» في عام 1802، حيث اطلق العنان للكراهية التي كونت جبلة افكاره. ولم يكن ديوان «الشرقيات» لفكتور هوغو عام 1829 اقل تحاملا ظلما وقساوة عن نتاج شاتوبريان وغيره، واتى ليعكس بطريقة واضحة الصورة السلبية عن الآخر، والمنحى الاستعماري، والدعوة الصريحة لاحتلال الشرق تحت ستار الانتصار للعدالة والحرية، ولكن الفونس لامارتين قال عن الاسلام الكريم: «ان هذه الديانة مليئة بالفضائل، واني احب هذا الشعب كونه شعب الصلاة، انه الشعب الاكثر تسامحا على الارض». وفي عام 1906 رأى لويس برتران ان العقل الشرقي متخلف وعاجز بحكم تكوينه عن استيعاب منطق الغرب وعلومه وفنونه. ولم يفرق برتران بين تركي وعربي أو بين مسلم ومسيحي، فالشرقي خبيث ومخادع ومتعصب، ولقد وجد هذا التوجه غطاء فلسفيا في افكار هيغل ودعوة الى الاستعمار المباشر من أجل فرض مدنية العالم الغربي على الشرق القاصر والجاهل. ونجح اليهود في التغلغل في المجتمعات الغربية، ونشطوا في ارساء قواعد الدولة الصهيونية في فلسطين، مستفيدين من فظائع المحرقة النازية وما انتجته من تعاطف مع اليهود بعد الحرب العالمية الثانية.

منذ اعلان وعد بلفور، فالهاجاناه وجابوتنكسي وبيغن وشتيرن وشارون وغيرهم من محترفي الابادة والمجازر، اتبعوا مبادئ احاد هعام القائمة على التجمع والاقتحام العسكري، واحتلوا فلسطين وشردوا اهلها، ونحن ما زلنا نمارس سياسة القشور بدون ان نتعلم من عدونا سياسة الفجور. اننا في هذه الايام العصيبة بأمس الحاجة الى احتواء الظلم والتطرف من جهة، وتحكيم العقل من جهة أخرى، والابتعاد عن اثارة النعرات الطائفية بشكل غير مقصود، وذلك عبر اخبار صحفية بريئة يمكن ان تعطي الانطباع بأن المسيحيين لا سمح الله يشاركون الصهاينة في حربهم القذرة على ارض الانبياء والرسل. خبر بسيط ورد مؤخرا في جريدة العرب الدولية تاريخ 6/9/2002 تحت عنوان: «تنظيم جديد يهودي ـ مسيحي للدفاع عن اسرائيل في اميركا»، وهو من خدمة صحيفة «نيويورك تايمس»، يمكن ان يفسر خطأ من بعض القراء. ونحن نسأل في هذا السياق: هل تركيا المسلمة هي حليفة فلسطين والعرب ام حليفة اسرائيل؟ هل القس فالويل والقس غراهام وغيرهما من المأجورين يمثلون المسيحية والمسيحيين، ام الفاتيكان والمطران هيلاريون كبوجي والبطريرك لحام والبطريرك صفير والاب عطا الله حنا والبطريرك اغناطيوس الرابع بطريرك انطاكية وسائر المشرق الذي صرح قائلا في 2002/6/22: «ان اليهود هم الذين صلبوا المسيح، ولن نكون في مصاف الذين يبرئونهم من ذلك». ان العلاقات بين المسيحيين والمسلمين اساسها المودة وعمادها الحب، كما في قوله تعالى: «ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون». يقول عبد الوهاب مديد في كتابه الصادر حديثا «مرض الاسلام»: مثلما كان التعصب بالنسبة الى فولتير مرض الكاثوليكية، فإن الاصولية هي مرض الاسلام». من ناحية أخرى، علينا نحن المسيحيين العرب ان نمارس اقصى درجات الضغط على المرجعيات الروحية في الغرب خاصة، والتي يجب الا تكتفي بعد الآن بالشجب والتنديد بالجرائم الاسرائيلية، بل عليها ان تنتقل الى مرحلة الضغط الفعلي على حكوماتها من اجل وقف حرب الابادة في الضفة الغربية وقطاع غزة. نعم، ان الفاتيكان لا يملك الطائرات والبوارج الحربية والسلاح النووي، ولكنه يملك سلاحاً أمضى اذا قرر واحسن استخدامه. وللتذكير فقط، فإن عدد الكاثوليك في الولايات المتحدة الاميركية يبلغ 72 مليونا، ناهيك من مئات الملايين في أوروبا والعالم قاطبة. وللتذكير ايضا، انه بالرغم من زيارة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الى كنيس روما عام 1986، وبالرغم من اعادة الفاتيكان العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل عام 1993، وبالرغم من الاعلان عن وثيقة «مياكولبا» أو «خطيئتي عظيمة» التي اصدرها الفاتيكان، اقامت جماعة من الصهاينة في 2002/3/22 صلاة «بولسادنورا»، وهي صلاة الانتقام حيث جرى شنق دمية تمثل بابا روما. وبالرغم من جميع خطوات روما الايجابية، تعالت الاعتراضات وحذرت الاصوات من «عودة المسيحية الى ارض اسرائيل»، وذلك اثناء زيارة الحبر الاعظم اليها، خلافا لما حصل اثناء زيارة يوحنا بولس الثاني الى لبنان وسورية، حيث استقبل بالحفاوة والترحاب والاحترام من قبل المسيحيين والمسلمين خاصة، تماشيا مع ما ورد في الآية الكريمة: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون».

يقول قداسة الحبر الاعظم يوحنا بولس الثاني: «احترام حقوق الانسان سر السلام الحقيقي»، والاسلام الكريم يجل الانسان ويحترمه ويحترم حقوقه، كما في قوله تعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم». ونحن نسأل مع قداسته: اين احترام حقوق الانسان العربي والفلسطيني؟ واي سلام حقيقي مع مجموعة من الجزارين الارهابيين الذين يغتالون شعبا بكامله تحت انظار واسماع الديمقراطيات الزائفة؟ وما رأي «العالم الحر» بأقوال الحاخام عوفاديا يوسف الذي يعتبر تارة العرب والفلسطينيين «مجرد حيوانات تدب على رجلين»، وينسب طوراً الى الله سبحانه وتعالى «انه ندم على خلق العرب الاشرار ابناء اسماعيل»، وبدعواته المتكررة الى ابادتهم؟ وما رأي «العالم الحر» بدعوة الوزير الصهيوني رشامام الى وضع اشارات صفراء على ثياب العرب الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية لكي يمكن تمييزهم عن اليهود، كما فعل النازيون باليهود، وابان الحرب العالمية الثانية؟ في 1929/11/25 كتب البرت اينشتاين الى حاييم ويزمان رئيس المؤتمر اليهودي، وأول رئيس لاسرائيل في ما بعد: «اذا تبين اننا عاجزون عن التوصل الى التعايش مع العرب في اطار اتفاقات شريفة، اذ ذاك نكون بمثابة من لم يتعلم شيئا من الفي عام من العذابات، وسنستحق كل ما يحصل لنا». وبعد اكثر من 70 عاما، يقول ساراماغو حامل جائزة نوبل للآداب: «ما شاهدته في الارض المحتلة هو افظع من اوشفيتز». ان فهم الآخر يبدأ بالاعتراف به كقيمة دينية وثقافية وحضارية، والتخلص من هاجس ترويضه ونسخه على الصورة التي نريد، فهل توصل الغرب الى فهم الآخر والاعتراف به؟ وكل ما نتمناه ان ننسى صليبية اوربانوس الثاني والمآسي التي خلفتها، ونبقى نتذكر مسيحية يوحنا بولس الثاني كي لا تضطر الكنيسة الكاثوليكية الى الاعتذار مرة أخرى بعد الف عام، وحتى نبقى نصلي بكل ايمان وخشوع قائلين: «المجد لله في العلا وعلى الارض السلام والرجاء الصالح لبني البشر».

* الأمين العام لاتحاد منظمات أطباء الاسنان العرب ونقيب اطباء الاسنان في لبنان سابقا