انقلابيان منقلبان في قفص

TT

عدت فتذكرت حكاية الخادمة حسنة التي كانت تخيفني بها وتهددني بأنني اذا كذبت او لم آكل طعامي واشرب شرابي، فإنني سأنقلب الى جريذي نخل بعد موتي، اسوة بكل المارقين والمذنبين والأشرار. تذكرت ذلك وانا احدق النظر في الجرذيين اللذين اصطادهما ناطور المقبرة حسن المسودن في اليوم التالي لدفن امير اللواء بكر صدقي والعقيد الطيار محمد علي جواد، بطلي اول انقلاب عسكري في العراق، بل وفي البلاد العربية عموما في سنة 1936.

وكأي مخلوق حديث العهد بالعبودية، كان الجرذيان ينتفضان غضبا وتحديا ويعضان بأسنانهما الحادة اسلاك القفص ويهزان اركانه بمخالبهما وينظران نحوي بنظرات تتلظى بالشرر. «لا ابني، لا. لا تقرب منهم يعضوك». قال لي الناطور. واضاف زميله: «يومين، ثلاثة، ويتعلمون على حياة الحبس».

كان احد الجرذيين اكبر من الآخر واشد ضراوة وتوحشا، مما دفعني الى الاستفسار من الناطور: «عمي حسن، أي منهم بكر صدقي وأي منهم محمد علي؟». نظر الناطور المسودن نحوي نظرة فارغة فارهة ثم انفجر ضاحكا. وظل يضحك ويقهقه، وأنا أزداد رعبا وذعرا. فتركته وهرعت الى البيت راكضا لأروي لحسنة قصة الجرذيين، واسألها ملحفاً بالسؤال، احقا هذا ما آل اليه القائدان الشهيران اللذان وضعا خطة للاستيلاء على كل ايران في ثمان واربعين ساعة كما قالوا لنا في المدرسة؟ وقضيت الليلة افكر وأحلم بهما في قبريهما وقفصيهما. ماذا يا ترى فعلا لينقلب كل منهما الى جرذي بعد موته؟ وخلصت اخيرا الى رأي راسخ واحد، وهو ان كل من يقوم بانقلاب ينقلب الى جريذي نخل بعد موته. ومن هذا جاءت كلمة انقلاب. ولكن اخي الأكبر مؤيد رحمه الله قال لي ان من انجازاتهما الوطنية حصر الرقص في الكباريهات بالعراقيات. والغريب انني رغم نضوجي وتقدمي في السن ومعرفتي بحقيقة الأسطورة الخرافية التي خوفتني بها خادمتنا حسنة، فإنني ما زلت اشعر كلما ذهبت الى متنزه كيو كاردنز في لندن، الحافل بشتى انواع السناجب الرصاصية اللون، ورأيت مجموعة منها تركض بين الأشجار كمن مسه الجن، تهشم الأوراد وتخطف الآيس كريم من ايدي الأطفال وتقفز من شجرة الى شجرة، تصورت انني امام شلة من ضباط الانقلابات لا هم لها غير العبث بكل شيء ولا تدري ماذا تفعل. وكلما سمعت زعيقها الحاد تصورتهم يتلون علينا البيان الأول للثورة. وبعين الوقت كلما رأيت في احدى المجلات والجرائد اليومية صورة جامعة لإحدى اللجان الثورية، او ما يسمى بمجالس قيادة الثورة، تصورتهم مجموعة من جريذية النخل. وهذا في الواقع هو السر الذي يكمن وراء كرهي الغريزي لأي انقلاب عسكري. واعترف هنا بأنه شعور ليس له أي مبرر عقلاني. ولكن لا تلوموني عليه. فقد نشأت وقضيت شبابي في ظل زمرة من مثل هذه الزمر، زمرة من جريذية النخل افقدتني القدرة على التفكير العقلاني وجعلتني افكر بعقل الجريذية، ولهذا لا يستذوق مقالاتي معظم القراء الذين تعودوا على التفكير بعقل البزازين والواوية.