عندما يدخل المجتمع ليل التاريخ

TT

في اقامتي الطويلة في ألمانيا كنت اتعجب من امرين متناقضين: توفر الرفاهية والأمن مع وجوه كالحة لا تشع بالسعادة يظهر ذلك خاصة في متلازمة يوم الاحد. فالناس يكونون في احلى مزاج بعد ظهر يوم الجمعة وهم يستقبلون عطلة نهاية الاسبوع بوجوه نضرة. لينقلب هذا المزاج الى اسفل سافلين عصر يوم الاحد وهم يستعدون لاستقبال العمل يوم الاثنين بوجوه باسرة تظن ان يفعل بها فاقرة. فكنت اقول لهم لا ينقصكم شيء وينقصكم اهم شيء. يجبا اليكم رزق كل شيء ولا تداهم بيوتكم المخابرات. ولكن وجوهكم لا تشع بالطمأنينة ولم ينجل لي هذا السر الا بعد فترة طويلة.

عندما درس عالم النفس (أبراهام ماسلو) من مدرسة (علم النفس الانساني) هرم الحاجيات الانسانية وجده يتكون من خمس طبقات. واعتبر ان الحاجيات لا تنتهي باشباع الرغبات الفيزيولوجية الخمس من (الطعام والشراب والجنس والملبس والسكن) بل لا بد من (الأمن الاجتماعي). و(الأمن) يمثل الطابق الثاني من تركيبة هرم الحاجيات الانسانية. وإذا توفر هذا فإنها لا تلبي الرغبات تماما، بل لا بد من توفر احساس الفرد (بالانتماء) للجماعة الذي يمثل الطابق الثالث من الهرم. يتلوها شعور خاص في الطابق الرابع من الهرم هو احساس الفرد بـ (تقدير) الجماعة له حتى يصعد الى ذروة (تحقق الذات) أو ما يسمى باللغة الألمانية Entfaltung أي احساس الفرد بانتشاره في الجامعة فيكسب قوة فوق قوته. وتحقق الذات Self actualization هي قمة الهرم ولا يحققها في العادة الا 5% من الناس فقط.

ومن هذا المخطط نصل الى ثلاثة امور: (الأول) ان اندماج الفرد في الجماعة يحتاج الى طابقين عريضين من تأمين الحاجيات الفيزيولوجية والاحساس بالأمن وهو ما تسعى له الدول المتقدمة. ودمجته الآية القرآنية بجملة مكررة «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف». ولكن آية أخرى من سورة النحل اعتبرت ان نموذج المجتمع السعيد هو من حقق ثلاثة شروط «وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة (مطمئنة) يأتيها رزقها رغدا من كل مكان» وهنا اضيف عنصر ثالث للحاجيات الفيزيولوجية والأمن الاجتماعي هو (الطمأنينة) الروحية.

وهذا المعنى الثالث يتقاطع مع نظرية (ماسلو) حول الحاجيات الانسانية حينما ادخل ثلاثة عناصر روحية بعد الحاجيات الفيزيولوجية والأمن الاجتماعي هي: (الانتماء) و(التقدير) و(تحقيق الذات).

(ثانياً) ان الفرق الاساسي بين الحيوان والانسان كما يقول الفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه «القوة» Power «ان افعى البوا عندما تجوع تلتهم الفريسة ثم ترجع الى السبات حتى يوقظها الجوع مرة ثانية» ولكن ما يحرك الانسان شيء آخر، فلم يكن ينقص عبد الناصر المال والطعام حتى يقوم بانقلابه العسكري، كما ان كزركسيس لم يشن حملته على بلاد اليونان لأنه كان يفتقد الزوجات.

وهذا يدخلنا على مفهوم (نهاية التاريخ والانسان الأخير) عند فوكوياما، فهو يقتبس من افلاطون ان محركات الانسان ثلاثة: الرغبة والعقل (والتيموس). والثالثة تعني انتزاع الاعتراف من الآخرين، وكل الجدل التاريخي حول هذه المشكلة أكثر من الغذاء والمأوى.

وبحسب علم النفس فإنه لا شيء يؤلم الانسان ويحرض عنده انفعال (الغضب) مثل الاستخفاف به فإذا قصر في تحقيق ذلك تملكه (الخجل) واذا حقق نفسه أحس (بالاعتزاز). وهذه الانفعالات الثلاثة هي حسب (هيجل) أهم محركات الصيرورة التاريخية.

ويرى (راسل) ان الانفعال هو الذي يحرك فـ«الادراك قد يوجه ويرشد ولكنه لا يولد القوة التي تؤدي الى العمل، فهذه القوة يجب ان تستمد من المشاعر» وهذا يؤدي حسب عالم النفس (هادفيلد) الى قلب مفهوم الشر فهو ليس «أمرا موضوعيا بل هو وظيفة خاطئة، والوظيفة الشريرة هي استعمال اندفاع خير في وقت خاطئ في مكان خاطئ نحو غاية خاطئة».

(ثالثاً) ان العالم العربي مقلوب الهرم، يعيش حالة من الفوضى، منكوس على رأسه عاجز عن التكيف مع العالم حسب تعبير (مالك بن نبي).

والسبب في هذه الفوضى العارمة انه لا يعرف العالم لأنه لم يشترك في صناعته فهي له مثل قصة الجن الأزرق مع سندباد.

إن المواطن العربي جائع وعار وخائف، يعيش من راتب لا يكفي رزق عياله، وعليه ان يركض كالحصان في تأمين وظيفتين اضافيتين تمكناه من العوم كي لا يغرق في المجاعة. وأي زيادة في الراتب تعني قفز الاسعار مرتين في دوامة شيطانية تحكم قبضتها على المجتمع باستمرار. وتذوب الطبقة الوسطى تدريجيا ليموت مائة مقابل ان يصعد واحد مترهل على شكل جنرال أو متنفذ حزبي أو (معلم) في المخابرات فينعم بسيارة مرسيدس في الوقت الذي يلقى الناس مثل كومة التبن في سيارات جماعية تسد الانوف من رائحة التعرق والاقدام محشورين مكانا ضيقا مقرنين يدعون ثبورا.

انها فظاعات يومية ولكنها بلادة الاعتياد عند الانسان، صدق مالك بن نبي في تشخيصه للوضع انه مجتمع يعيش (ليل التاريخ). ومجتمعاتنا خرجت عن سكة الحضارة منذ زمن بعيد فلا نزداد من هدفنا الا بعدا والمرض الا نكسا وفي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.

ولو بعث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من مرقده لقال وهو يشاهد الاوضاع البئيسة: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ وعلى فرض ان المجتمع انقاد لنصائحه فإن إمكان ان تنصلح الامور يحتاج مائة عام. والناس لا تنتظر وليس عندها من الصبر ان تتأمل حديث القرون في الوقت الذي تعاني من المجاعة اليومية. ولذا فمن استطاع القفز عبر نفق الزمن وتوديع كافور الاخشيدي الى عصر النهضة لا يقصر ولا يتردد. وهل يتردد من يرى الضوء ليرجع الى الكهوف؟ ومن يرى الحرية ان يرجع الى أقبية المخابرات ليحاسب على يد منكر ونكير.

وهو ما يحدث الآن، فالعقول تفر في نزيف لا يرحم، تدخل الامة حالة الصدمة كما في حوادث الطرق. والاموال تطير بجناحين من دولار ويورو لتستقر في سويسرا ومانهاتن، وشباب عاطل يزحف في مظاهرات الى ابواب السفارات ممتلئ احباطا ويأسا. وخيرة من يكتب للوطن هم خارج الوطن. والفيلسوف عبد الرحمن البدوي بعد ان الف تسعين كتابا عاش في غرفة في فندق في باريس لا تتسع لتسعين كتابا وعوقب مثل ابن رشد ومات شريدا وحيدا بدون جنازة. والعربي اليوم لا يأمن بوائق العربي. والصحافة التي فيها هامش من الحرية تعيش في المهجر أو هامش العالم العربي حيث لا ينتبه أحد أو يقرأ.

والسؤال إلى أين تمضي الأحوال؟

كانت الاوضاع قبل نصف قرن افضل حالا. بشيء من التعددية الحزبية. والافلام القديمة تطلعك على بقايا من الاناقة والنظافة. وهناك صحافة بهامش. ومظـاهرات عفوية بدون رجال المخابرات. والفكر الحر من خلال حركة نشطة في الترجمة والتأليف والنشر، ينقل خلاصات من الفكر الملهم خارج ثقافة عصور الانحطاط.

أما اليوم فنحن في مواجهة تنين من الاستبداد يقذفنا بشرر كالقصر كأنها جمالة صفر، وحكومات فاسدة. ومثقفين مدجنين. وجمهور يبيع دماغه لأشرطة من موجات التشدد الديني وينتحر في كهوف تورا بورا. ومن تجرأ فتظاهر ولو في مناسبة وطنية وليس ضد النظام فلا مرحبا بهم انهم صالوا اقبية المخابرات. ومن تجرأ فنصح حكم عشر سنوات سجنا، وما يسمى بالصحوة الاسلامية هي انتحار بالعودة من أنوار العصر الى ايام الحاكم المملوكي ابو سعيد جقمق.

انها جرعة مخدر تدفع الى الغيبوبة وليست محرض يقظة لمواجهة واقع يزداد انهيارا، وسفينة تغرق الى القاع بتسارع.

ان هذه رؤية تشاؤمية وهي مؤشر الانحطاط حسب الفيلسوف (نيتشه) الذي كان يرى ان التشاؤم مشعر على فترة خبيثة من الضعف والانحطاط، والتفاؤل سذاجة وسطحية في التفكير، ولكن التفاؤل الحزين أو (ولادة الموسيقى من رحم المأساة) هي المؤشر الصحي الجيد لروح تنبض بالحياة. راجع مريض طبيبه سائلا بقلق: يا دكتور هل وضعي خطير؟ هل سأعيش؟ قال نعم، ولكن لا انصحك بذلك.