شيوخ العدالة التي لا تريدها أميركا

TT

في الوقت الذي كان ارييل شارون يصف السلطة الوطنية الفلسطينية بأنها «زمرة من المجرمين الفاسدين والإرهابيين» وهي مذمة أتت من ناقص، وعندما تأتي المذمة من الناقص فإنها بمثابة الشهادة بالكمال على نحو قول الشاعر...

وفي الوقت الذي كان وزير الخارجية الأميركية يجتمع في واشنطن بوفد من هذه السلطة ويتحادث مع اعضائها على أنهم من رموز دولة لا بد ستقوم على رغم التصرفات والتصريحات الشارونية المسعورة...

وفي الوقت الذي كانت النازية الجديدة في شخص الاحتلال الاسرائيلي تواصل اهانة الفلسطينيين رجالاً ونساء، ولا يتورع جنود الاحتلال الشاردون في شوارع المدن والبلدات الفلسطينية ترافقهم الدبابات والجرافات وتحميهم الطائرات والرادارات كي لا يصيبهم استشهادي بأذى، عن سوق الفلسطينيين كالأغنام وتوثيق أياديهم وتركيعهم...

وفي الوقت الذي كانت الفضائيات تبث بعض المشاهد عن الممارسات النازية الاسرائيلية ومن بينها تقييد سيدة فلسطينية محجبة ووضع شاب فلسطيني في حفرة بعد تقييده، وهو واحد من مناظر تتكرر يومياً وتؤكد ان هؤلاء الشاردين المسعورين الذين يعبثون بالمجتمع العربي والاسلامي ولا يعيرون المجتمع الدولي والشرعية الدولية أي اهتمام، لن تردعهم سوى عملية تأديب عربية ـ اسلامية ـ دولية ومن النوع الذي تجعلهم يحسبون الف حساب بعد ذلك لكل تصرُّف أرعن يقدِم عليه الجنود الشاردون بأوامر تأتيهم من القادة المسعورين الدراكوليي المزاج...

في هذا الوقت كان مسؤول اسرائيلي في السفارة الاسرائيلية في بروكسل يشير الى انشغال البال الشاروني من مشروع قانون تقدَّم به في يوليو (تموز) الماضي عدد من اعضاء مجلس الشيوخ، وهو بمثابة تطوير للقانون الذي صدر عام 1999 والذي يعطي المحاكم البلجيكية صلاحية دولية في قضايا الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان. وبموجب هذا القانون كاد شارون الذي هو المجسَّم للانتهاكات المشار إليها يَعلَق في الشِباك ثم أمكنه الإفلات بسبب الضغوط الاميركية المستترة من جهة ومجتمع تجارة الماس التي بلجيكا مركزها الاساسي في العالم والتي يستأثر اليهود بها، اما كيف جاء المخرَج لإفلات شارون من الدعوى التي أقيمت عليه استناداً الى مجزرة صبرا وشاتيلا، فمن خلال ثغرة تفيد أن ارييل شارون غير موجود على الاراضي البلجيكية وأن القانون يختص بمن هم مقيمون. وهذه الثغرة كانت الدافع لعدد من اعضاء مجلس الشيوخ البلجيكي الذين صاغوا مشروع قانون جديداً لا يتطلب ان يكون المشتبَه بهم، امثال ارييل شارون، مقيمين في بلجيكا لمحاكمتهم بموجب القانون.

من الواضح ان إفلات شارون من الشِباك يبدو صعباً هذه المرة خصوصاً اذا كانت هنالك جدية من جانب المحامي اللبناني وجدي الملاط ومؤازرة مجموعة من المحامين العرب والدوليين ومنهم بلجيكيون ويهود. والذي سيساعد على ذلك هو كبرياء البلجيكيين الذين لا يريدون لقانون يتباهون به على بقية دول العالم الإندثار والتلاعب به من جانب الشارونيين، وهو ايضاً إمعان المشتبَه به شارون في إرتكاب المزيد من المجازر بحيث ان الأمر لا يقتصر على «مجزرة صبرا وشاتيلا»، كحيثية للدعوى عليه، وإنما هنالك «مجزرة مخيم جنين» و«مجزرة غزة» فضلاً عن أنه الى حين أن يصبح مشروع القانون الجديد قانوناً قائماً ومصدَّقاً عليه سيكون شارون اضاف المزيد من المجازر الى ملفه الذي يقطُر إجراماً وإرهاباً.

وعندما نقرأ تعليق المسؤول في السفارة الاسرائيلية في بلجيكا حول مشروع القانون الجديد ونلاحظ اي هلع يستبد سلفاً في أوساط الشارونيين، يتعمق شعورنا بأننا لسنا وحدنا المتضررين من النازية الجديدة وإنما هنالك ضيق على المستوى الدولي وإن كانت المصالح السياسية والمالية تغطي احياناً على هذا الضيق. ومما قاله مسؤول السفارة الاسرائيلية: «إننا نأخذ هذا الأمر بجدية شديدة. لقد تصوَّرنا ان الموضوع انتهى، لكن القانون الجديد قد يسمح برفع دعاوى جديدة. ومن المنطقي ان نلجأ الى السبل السياسية لتعطيله. سنتخذ إجراءات وقائية لكننا لا نعرف بعد كيف...».

ما الذي يمكن أن تفعله اسرائيل؟

هل تلجأ الى التشهير؟ أم هل تستنفر اللوبيات الصهيونية واليهودية في الدول الأوروبية وفي بقية دول العالم لتنظيم التظاهرات التي تنطلق من المشاركين فيها اتهامات لبلجيكا بأنها ضد السامية؟ أم هل تسحب من خزانة الابتزاز بعض الملفات المعدَّة سلفاً وتبدأ استعمالها ضد الذين يؤيدون التعديل القانوني الذي بموجبه يمكن مثول ارييل شارون عاجلاً أم آجلاً امام قاضٍ لا بد سيدينه اذا كان هذا القاضي حريصاً على ضميره؟ أم هل تقرر الحكومة الصهيونية الخفية التي هي المرجعية لإسرائيل الاستغناء عن بلجيكا كمحطة رئيسية لتجارة الماس؟ أم هل تقرر هذه المرجعية عدم التفريط في المحطة والاكتفاء بخطوة احتجاج دبلوماسي عابرة وذلك بالإيعاز الى الحكومة في اسرائيل بقطع العلاقات الدبلوماسية مع بلجيكا، أو تفادياً للتعقيد وتمهيداً للتراجع الذي لا بد منه يتم خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي؟ والخطوة الأخيرة لمحت إليها اسرائيل يوم السبت الماضي كوسيلة ضغط وتحذير وتنبيه.

وأياً كان الإجراء الذي يمكن أن تتخذه الحكومة الاسرائيلية فإنه لن يرقى الى الأهمية التي سيكتسبها القانون في حال المضي الى النهاية في تعديله لكي لا يفلت منه ارييل شارون وبقية الجزارين في هذا العالم.

وثمة نقطة بالغة الأهمية وهي أن إقرار هذا القانون وتطبيقه في بلجيكا من شأنه أن يحمل بقية دول الاتحاد الاوروبي على إجراء تعديلات في قوانينها بحيث لا تصبح هذه الدول ملاذاً لمرتكبي المجازر إذا استعصى استحداث محاكم لمحاكمتهم على نحو ما تريد بلجيكا بصدق السير فيه.

وإلى هذه النقطة واحدة أخرى تتمثل في أن التوجه البلجيكي نحو تعديل القانون بحيث يجيز محاكمة من تُرفع الدعاوى في حقهم حتى إذا كانوا غير مقيمين على الاراضي البلجيكية، يتزامن مع بداية تبعثُر في حكومة ارييل شارون قد يتطور في ضوء الانقسام السائد في «حزب العمل» بسبب مواصلة مشاركة الحزب في «حكومة الوحدة الوطنية» الى أن تنتهي هذه الشراكة باستقالة وزراء الحزب تلي ذلك استقالة الحكومة والدعوة الى انتخابات جديدة، ليس بالضرورة في ضوء الاستطلاعات الأخيرة ان يكتسح فيها ارييل شارون الموقف، وربما يصبح مجرد رمز في الحياة السياسية العامة لمرحلة دفع فيها الاسرائيليون الثمن غالياً من دون ان يفطنوا الى أن خسائر الفلسطينيين على أيدي الحكم الشاروني تبقى لمصلحتهم على أساس انهم في نظر العالم معتدى عليهم في حين أن كل الذين جناه الاسرائيليون من شارون هو مئات الضحايا وألوف الجرحى الذين سقطوا في عمليات استشهادية، فضلاً عن نقمة دولية دفينة وإلى حد الكراهية على اسرائيل كونها معتدية.

وفي انتظار التطورات يجد المرء نفسه يسجل بالتقدير موقف الشيوخ البلجيكيين الذين هم شيوخ العدالة التي ترفض الإدارة الاميركية اعتمادها، والذين تقدموا بمشروع القانون الجديد. ونتذكر اي مروءة كان عليها بعض الشيوخ الذين زاروا لبنان قبل بضعة أشهر وصرحوا بما يمليه عليه ضميرهم وبما سمعته آذانهم وشاهدته عيونهم. وفي النهاية هنالك في هذا العالم من يقول كلمة الحق. لعل وعسى يتأمل الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان بعض الشيء في هذا الموقف البلجيكي النزيه ويوقف اندفاعه في اتجاه ما تفرضه اسرائيل على الإدارة الاميركية وتفرضه هذه الأخيرة بالتالي على كوفي انان. ومن بين المفروضات التقرير السيئ الصيغة والمضمون للأمين العام حول «مجزرة جنين» وانضمامه الى لائحة المطالبين بتجاهل الرئيس ياسر عرفات. وهذا ما لمسناه في قوله خلال مقابلة أجرتها معه الأسبوع الماضي القناة العاشرة في التلفزيون الاسرائيلي «إن عرفات موجود في عزلة الأمر الذي يعني عملياً عدم إمكانية إجراء اتصالات معه. وإزاء ذلك يجب التركيز على شخصيات فلسطينية أخرى...».

يا ليته آثر الصمت بدل أن ينطق كلاماً مصوغاً بمفردات شارونية ـ بوشية.