محادثات غزة أولا

TT

تتعدد الخطط السلمية الأمريكية الواحدة تلو الأخرى دون ان تستطيع واشنطون بجبروتها الدولي المستند إلى قوتها المفرطة تنفيذ خطة سلمية واحدة، من الخطط التي وضعتها مما يجعلنا أمام ظاهرة تكرار الموقف الأمريكي الواحد المؤيد بدون تحفظ لإسرائيل، والمعادي بدون تردد للفلسطينيين عند صياغة المبادرات السلمية، فأصبحت جميعها غير قابلة للتطبيق لما تتضمنه من غبن على الفلسطينيين ولما تلاقيه من معارضة إسرائيلية تطالب بالمزيد من التنازلات الفلسطينية بالضغط الأمريكي عليها، الذي لجأ إلى الانتقال من مبادرة سلمية إلى أخرى في سبيل إرضاء أطماع إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، ولما كان إرضاء إسرائيل قضية مستحيلة فسوف تتواصل المبادرات السلمية الأمريكية إلى ما لا نهاية كسباً للوقت حتى تتحول القضية المستحيلة إلى قضية ممكنة عن طريق إقناع الرأي العام العالمي بأن الاحتلال الإسرائيلي هو في واقعه حرب التحرير الثانية لأرض الميعاد باعتبارها أرض شعب الله المختار، وهو حديث إفك إسرائيلي يتعارض مع أحكام القانون الدولي العام ويتناقض مع الإرادة الدولية ومع ذلك تؤيده أمريكا وتدعم تجسيده على أرض الواقع لترفع الحرج عن إسرائيل باستمرار احتلالها لأرض الغير، وتحقق التعاطف الدولي معها في حرب تحريرها لأراضيها.

على الرغم من هذا التأييد الأمريكي المطلق للمواقف الإسرائيلية نجد رئيس الوزراء اريل شارون يصب جام غضبه على واشنطون لقبولها التفاوض مع وفد فلسطيني برئاسة صائب عريقات وعضوية عبد الرزاق اليحيى وماهر المصري لأن فيه خروجا على الاتفاق معها القاضي بعدم الاتصال مع الفلسطينيين إلا بعد الإصلاحات في المؤسسات الفلسطينية التي ترضى عنها إسرائيل، ولم يكتف بهذا النقد للموقف الأمريكي وإنما بادر بإرسال وزير دفاعه بنيامين بن اليعازر للتفاوض مع الفلسطينيين الذي قدم لهم اقتراحاً بالمباحثات تحت مسمى غزة أولاً في يوم الاثنين قبل الماضي 5 أغسطس عام 2002. سارعت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى عقد اجتماع طارئ يوم الأربعاء الماضي 7 أغسطس عام 2002، وأعلنت قبولها المبدئي للاقتراح الإسرائيلي المتعلق بمباحثات غزة أولا، وبدت في الأفق الإقليمي رؤى فلسطينية لاحتمالات التوصل إلى حل سلمي مع الإسرائيليين الذين استطاعوا تحويل الآمال في السلام إلى مجرد سراب سياسي بالتراجع عن الاقتراح الذي قدموه بالتفاوض حول غزة في مساء نفس اليوم الأربعاء، الذي صدرت في صباحه الموافقة الفلسطينية على الاقتراح الإسرائيلي بحجة عدم الاتفاق على سبل تحقيق الأمن الذي يمثل الهدف الأول من السلام وهي حجة واهية تستند إلى الانفعال الرامي إلى تجريد الشعب الفلسطيني من حقه في الكفاح باعتباره إرهاباً ومواصلة إسرائيل لعمليات القمع باعتبارها دفاعاً عن النفس.

الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذه الحجة الواهية العبثية بعد أن اتضح من تقديم الاقتراح الإسرائيلي في الاجتماع الأول مع الفلسطينيين، وسحب هذا الاقتراح في الاجتماع الثاني من مدة زمنية من الاثنين إلى الأربعاء ولا تصل إلى ثمانية واربعين ساعة، سوء نية إسرائيل الرامية إلى افساد اجتماعات الفلسطينيين في واشنطون مع وزير الخارجية كولن باول ورئيسة الأمن القومي كونداليزا رايس عن طريق الإيحاء بأن إسرائيل تبادر إلى الصلح مع الفلسطينيين في سبيل الوصول إلى السلام معهم لتوجه الموقف الأمريكي إلى زيادة دعمها لإسرائيل عند التفاوض مع الوفد الفلسطيني الذي دعي إلى واشنطون لمقابلة المسؤولين الأمريكيين، ويبدو ان الخدعة الإسرائيلية بالاجتماع مع الفلسطينيين قد نجحت في توجيه المسار التفاوضي بأمريكا بالتركيز على الأمن الإسرائيلي الذي نتج عنه الوعد بتغييرات جذرية واسعة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتلتقي مع اهداف خطة تينيت التي تجعل من الأمن الاسرائيلي محور السلام مع الفلسطينيين.

تأكد بعد التراجع الإسرائيلي عن ما طرحه وزير الدفاع بنيامين بن اليعازر تحت لافتة غزة أولا الذي عدل ليصبح «غزة بيت لحم أولا» للتفاوض مع الفلسطينيين لا يزيد في حقيقته عن ألاعيب صهيونية تستهدف خداع الرأي العام العالمي بحسن نية إسرائيل تجاه السلام في الوقت الذي تعمدت فيه تضليل السلطة الوطنية الفلسطينية بإدخالها في منزلق الاهتمام بالجزئيات والتورط في التعامل مع الثانويات حتى تسقط في فخ المراحل الانتقالية مرة أخرى تحت مجهر الاختبار وتصبح اسرائيل الخصم والحكم لتقييم الاوضاع وفقا لرؤيتها وتصدر الأحكام على هواها، ومعنى ذلك ان مبادرة وزير الدفاع بنيامين بن اليعازر لم تأت بغرض إيجاد حل سلمي وإنما جاءت لتحجيم دور الكفاح الوطني الفلسطيني بهدف قلب الموازين بجعل المقاومة سبباً في الصراع العسكري وليس نتيجة للاحتلال الذي يدفع بالمواطنين إلى مقاومته بالكفاح في سبيل تحرير ارضهم ونيل استقلالهم، والفرق في الأخذ بجعل المقاومة سبباً في الصراع العسكري وليس نتيجة للاحتلال يلغي سمات العدوان عن إسرائيل المعتدية، ويلصقه بالمقاومة الفلسطينية المكافحة.

خطورة هذا المسلك الإسرائيلي تتضح من تخطيطها لمؤامرة تستهدف فرض الصدام المسلح الفلسطيني ـ الفلسطيني بعد ان تحولت الخلافات بين فصائله في السلطة الوطنية وبين قيادات المقاومة في ميادين الكفاح الوطني من المواجهة بالحوار إلى المجابهة بالقتال وهي خطة اسرائيلية تعمل على تنفيذها منذ وصول اريل شارون إلى السلطة ليقضي الفلسطينيون على أنفسهم بعيداً عن المساس بالشعب الإسرائيلي الذي يعاني من مواجهة خطر الموت المتربص به بالعمليات الاستشهادية، وهذه المؤامرة تفرض علينا القلق والخوف لأنها لو وقعت أدت إلى إبادة الشعب الفلسطيني لنفسه وورث ارضه اعداؤه الصهاينة وتمكنوا من تحقيق حلمهم بإقامة إسرائيل الكبرى فوق كل ارض فلسطين لتكون وطناً قومياً لليهود شعب الله المختار باعتبار هذه الأرض الفلسطينية من وجهة نظرهم هي ارض الميعاد استناداً إلى الأساطير اليهودية.

نحذر من وقوع الفلسطينيين في هذا الفخ الإسرائيلي بجعل الخلاف بينهم محصوراً داخل أطر المواجهة بالحوار دون الانزلاق الى المجابهة بالقتال عن طريق إدراكهم بأن إسرائيل تعمل على خلق الفتنة بينهم من خلال ادخال النضال الفلسطيني في متاهات المراحل الانتقالية كسباً للوقت لتفرض سيطرتها على الفلسطينيين من خلال الحلول الجزئية التي تقام وتلغى في اليوم الواحد كما حدث في التفاوض الأخير حول غزة وبيت لحم أولا، لأن السلام لم يكن هدفاً من هذه المفاوضات وإنما كان سبباً في عرقلة المفاوضات الفلسطينية الأمريكية في واشنطون.

لا يمكن القبول بالتفاوض السلمي من اجل تحقيق الامن الاسرائيلي بعيداً عن النظرة الكلية الشاملة للصراع المسلح الذي كانت أسبابه الاحتلال الاسرائيلي والاستيطان اليهودي فوق %42 من الاراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967 والحصار المفروض على الفلسطينيين والخلل القانوني الذي يمنع عودتهم إلى ارضهم فإما أن يكون الحل شاملاً لكل هذه القضايا واما استمرار الكفاح الوطني حتى الاستقلال.