بوش يدفع الإسرائيليين نحو التخبط

TT

العلاقة بين تطرف شارون وتطرف الجمهور الإسرائيلي علاقة مباشرة، وهي علاقة السبب بالنتيجة، وهي علاقة تبادلية تزداد لحمة بازدياد تصعيد الإرهاب الرسمي الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ودفع بعض الفلسطينيين للرد على جرائم شارون بعمليات لا تؤدي إلا إلى مزيد من التقارب بين شارون والجمهور الإسرائيلي الذي انحاز وينحاز باطراد نحو التطرف، وهذا الانحياز، الذي يزداد يوما بعد يوم، وصل إلى حد شبه إخراس لقوى السلام واليسار في إسرائيل، وموافقة يمينية رسمية وشعبية على سياسات إجرامية مخالفة لكل القوانين والأعراف الدولية. فقد سكت الجمهور الإسرائيلي ولم يحتج على سياسة الاغتيال بالاباتشي والدبابات، وسكت على السياسة الإجرامية التي أدت إلى مقتل مئات المدنيين الفلسطينيين (ومنهم الأطفال)، كما صمت الجمهور الإسرائيلي (حتى الجمهور الصهيوني الليبرالي) على سياسة هدم منازل المدنيين وتجريف أراضيهم الزراعية ومصادرة مزيد من اراضي الفلسطينيين وإقامة المزيد من المستعمرات عليها. ليس هذا فحسب، بل صمت الجمهور الإسرائيلي باستثناء بعض الأصوات والأقلام الخجولة على الجرائم الجماعية التي ارتكبها شارون وقوات الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين، كما جرى في مخيم جنين وبلاطة والدهيشة وغزة. ويتنامى هذا الانحياز للسياسات الخرقاء التي يتبعها شارون وضباط الجيش الإسرائيلي حتى وصل في الآونة الأخيرة (وبسبب فشل كل هجمات جيش الاحتلال الهمجية) إلى تأييد واسع لفكرة ترحيل الفلسطينيين. فقد صمت الجمهور الإسرائيلي على إعادة احتلال مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وصمت هذا الجمهور على الجرائم التي ارتكبت وترتكب خلال هذه العملية العسكرية الهمجية وسكت على فرض منع التجول على مليون فلسطيني في الضفة الغربية وتحويل المدن والقرى والمخيمات إلى معسكرات اعتقال جماعية وإلى تحويل كل بيت وكوخ فلسطيني الى زنزانة انفرادية، وأيدت محكمة العدل العليا القرار المتمثل في هدم بيوت العائلات التي ينتمي إليها الناشطون من أعضاء التنظيمات، وترحيل عائلاتهم من الضفة الغربية إلى قطاع غزة.

كل هذه الإجراءات مخالفة بالطبع لاتفاقية جنيف ولكافة المعاهدات الدولية ولاتفاقية أوسلو. والآن كما قلنا يتجه الجمهور الإسرائيلي نحو موقف ليبرمان وزئيفي، أي يؤيد خطة فرض الاحتلال العسكري الإسرائيلي رسميا، وترحيل الفلسطينيين بأعداد كبيرة عن أراضيهم وبيوتهم.

شارون الذي لا يريد السلام، بل يريد اخضاع الفلسطينيين لمخططه الذي يستهدف ابتلاع الأرض الفلسطينية وجلب مليون يهودي جديد لاحتلال تلك الاراضي وبناء المستعمرات شكل بتحركاته الإجرامية ردود فعل وخلق نتائج، كان يعلم سلفا أنها ستصب الزيت على النار وتحدث تشابكاً له آلية ذاتية لا تولد إلا مزيداً من العنف. وتخلق حالة لدى الجمهور الإسرائيلي يشعر معها أن هذه المعارك هي معارك البقاء والحفاظ على دولة إسرائيل في وجه حملات تصفيتها، وخلق لدى الفلسطينيين شعوراً وانطباعاً بأن حكومة شارون وجيش الاحتلال يريدان تصفية الشعب الفلسطيني وترحيله عن ارضه عبر مجازر كتلك التي ارتكبتها العصابات الصهيونية عام 1948، لإكراه الفلسطينيين بقوة السلاح على مغادرة أراضيهم. لقد أوقع شارون الإسرائيليين في شرك يصعب عليهم الخروج منه، لكن ذلك ليس مستحيلاً بل هو ممكن، رغم صعوبته. ولا اعتقد انه يمكن لمفاوضات السلام في الشرق الأوسط ان تستكمل ما لم يخرج الجمهور الإسرائيلي من الشرك الدموي الذي جرهم إليه شارون. لكن الفلسطينيين تزايدت بينهم نسبة المشككين في عملية السلام برمتها وبشكل متواز مع رفع وتيرة الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، الا ان تخليصهم من هذا الشعور أسهل بكثير من إخراج الجمهور الإسرائيلي من شرك شارون، والسبب الأساسي هو أن اليأس لا يجد ولن يجد طريقه إلى عقول وقلوب الفلسطينيين، فلا يوجد أمامهم سوى الحرية والاستقلال، في الوقت الذي بدأ يتسلل اليأس والخوف من المستقبل إلى عقول وقلوب الإسرائيليين. وما هذه القسوة والإجرام الفظيع الذي يراه العالم يرتكب على يد الجنود الإسرائيليين ضد الشعب الفلسطيني إلاّ تعبير عن هذا التخوف، وبداية التسلل الخفي لليأس إلى نفوسهم. فهم يعانون من قلق نفسي حاد إزاء مستقبلهم ومستقبل دولة إسرائيل في المدى القريب والمدى البعيد، لكن الغريب أن مثل هذا القلق وذاك التخوف ولّدا لدى الإسرائيليين نتائج معاكسة لما يجب أن تولده هكذا مشاعر. وهم يحاولون الهرب من القلق والتخوف بارتكاب مزيد من جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، وقد يوسعون نطاق استخدام آلتهم العسكرية المتفوقة (نحو العراق وسوريا وإيران)، استناداً للنتائج نفسها التي ولدتها أزمتهم النفسية وقلقهم. فمثل هذا التوسع في ميدان استخدام أسلحتهم المتقدمة، سيأتي من باب إقناع أنفسهم بأنهم قادرون على ضمان مستقبل دولة إسرائيل، وإقناع أنفسهم بأن اليأس لم يدب ولن يدب في نفوسهم، لكن هذا لن يخفي حقيقة في صدر كل إسرائيلي وهي أنه قلق من المستقبل ولا يعرف إلى ما ستؤول إليه الأمور، خاصة عندما ينظر لخريطة الشرق الأوسط وما حولها. ولا شك ان قيام بعض التنظيمات الفلسطينية والافراد بعمليات استهدفت قلب إسرائيل والمدنيين الإسرائيليين ساهمت إلى حد بعيد في إقناع الإسرائيليين بما يقوله شارون لهم علناً أو سراً (في لقاءات مغلقة من مبشريه ومريديه). فقد رفع شارون عبر هؤلاء المبشرين والمريدين شعار حرب إسرائيل الأخيرة مع الفلسطينيين، وعلى هذا الأساس يتصرف شارون، لكن لسوء حظه فإن كل هجماته الهمجية والحصار الخانق واعتقال الشعب الفلسطيني في معسكرات اعتقال وإعادة احتلال اراضي الضفة و.. و.. لم تضع حدا للصراع مما أعاد التخوف لعقول وقلوب الإسرائيليين.

في ظل تسلل اليأس لنفوس الإسرائيليين تدريجياً (حتى إذا لم يعلموا بذلك، فهو في العقل الباطن)، يصبح من الضروري إعطاء الإسرائيليين أملاً في المستقبل كي يتخلصوا تدريجياً من شعور الخوف والقلق واليأس، وهذا سيؤدي إلى التخلص التدريجي من نتائج هذه المشاعر المقلقة وما ترتب عليها من ارتكاب أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين، وللإصرار على التوسع ومصادرة الأراضي وبناء مزيد من المستعمرات. ان اعطاءهم بابا للأمل واسعا سوف يجعلهم يدركون مجددا ان الهروب للأمام لن يحل المشكلة وان العنف لا يمكن أن يولد الأمن ولن يولد إلا العنف المضاد.

مرة أخرى نقول للإدارة الأميركية إنها ارتكبت اخطاء فادحة في تعاملها مع تعقيدات الشرق الأوسط، وان ما ترتكبه الآن من اخطاء يولد مزيداً من اليأس لدى الإسرائيليين وان عليها ان تغير من منهجها في التعامل مع المنطقة لتخلق الأمل للإسرائيليين من خلال حل سياسي واضح المعالم للعالم، كما هو واضح في ما أعلنه بوش ولم يطبقه: الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على الأرض التي احتلتها اسرائيل عام 1967.

وعلى الإدارة ان تدرك أن كلاما كالذي تفوه به وزير الحرب الاميركي دونالد رامسفيلد لا يولد في نفوس الاسرائيليين سوى اليأس والرغبة بالهروب للأمام من خلال ارتكاب مزيد من جرائم الحرب والخوف واليأس.

الفلسطينيون يريدون السلام وعلى الإدارة الأميركية ان تتوقف عن استخدام الإسرائيليين والفلسطينيين للسيطرة على منابع النفط، فالثمن هنا هو من دماء الإسرائيليين والفلسطينيين.

يبقى ان نذكر الرئيس بوش ان 160 مندوبا من مندوبي المؤتمر الصهيوني الذين عقدوا مؤتمرا لهم في زيوريخ عام 1947 لبحث الموقف من قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين رفضوا هذا القرار، وشكلوا مجموعة متطرفة يشكل الليكود وشارون وريثها. وان شارون شكل فرقاً إرهابية هدفها قتل العرب كما انه ارتكب مجزرة قبية والسموع وصبرا وشاتيلا، وانه الوحيد الذي صوت ضد اتفاقية السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل وانه رفض اتفاق اوسلو.

وهذا يدل على انه لا يريد السلام وما زال يفكر كما فكر في مؤتمر زيوريخ عام 1947.

وانه الآن يجر الاسرائيليين نحو كارثة حتمية فإذا كانت مأساة الشعب الفلسطيني والكوارث التي انزلت وتنزل به يوميا على أيدي مجرمي الحرب من قوات الاحتلال الاسرائيلية لا تحدث تأثيرا على مواقف الرئيس بوش، فقد تؤثر الكارثة التي يجر شارون الاسرائيليين لها عليه ويحاول انقاذهم من اليأس بإقامة جسر الأمن والأمان لهم: الدولة الفلسطينية المستقلة.