منتدى الساحة العربية .. متقدم ينفرد بطروحاته (2 ــ 4)

TT

في قـصة كـُل الأشياء: تبدأ الأفكار فردية متمردة مغايرة، ثم تشيع فـَتـُـكرّس عـُـرفا ومـُـسلـّـمة، ثمّ يعود الفرد الى ذاته مرّة أخرى لينقض غـَـزلـه ويتمرد على تمرده الأصلي. واذا عرفت أن «الساحة العربية» المنتدى على الانترنت، تضم ما يقارب 80 ألف عضو، غالبيتهم سعوديو الجنسية، وأن عدد زوارها هم أضعاف هذا الرقم، وأن عدد متصفحي الانترنت في المملكة كلها بالكاد يبلغ مليوناً واحداً، فسيتجلـّـى لك أن «الساحة العربية» باتت منتـشرة الى درجة أنهـت وظيفتها كمساحة للتعبير الفردي شديد الخصوصية، وأدخلتها مرحلة النمطية الرتيبة، وأنها باتت مكاناً افتراضيا له أعراف ومسلمات وقوالب ضاغطة على الفرد وراسخة في مخيلته.. وان من يكتب في «الساحات» لا تزيد فرديته التعبيرية عن فردية خطيب على منصة: معدومة!! «الساحة العربية» من أقدم المنتديات ان لم تكن أقدمها، ومن أكبرها ان لم تكن أكبرها، موجودة على الانترنت منذ مارس 1997، أي أن انشاءها سبق بقليل دخول خدمة الانترنت الى المملكة، فكانت أول منتدى يتعرف عليه المتصفح فيها. رغم أن الساحة العربية اماراتية المنشأ، الا أنها لعبت ورقتها بذكاء وراهنت على الأجواء السعودية للاستثمار، وربحت بامتياز. فبالاضافة الى توق المتصفح السعودي الى استثمار هذه الخدمة للتعبير عن نفسه، واهتمام جمهور المنتديات عموما برؤية صورتهم المجتمعية دون تنقيح، فهم كذلك يمتلكون زخما تعدديا، طروحاتهم متماسكة الى درجة مقبولة وتبحث عن منبر عثرت عليه في «الساحات» بشكل خاص.. وقد كان.

ما الذي ادى الى الانتشار الهائل للساحة بين المتصفحين السعوديين بالذات؟ في رأس قوانين الساحة بندٌ يقول «الساحة العربية تستقبل جميع الطروحات العربية والاسلامية في حدود ضوابط العقيدة المتمثلة بمنهج اهل السنة والجماعة على فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم». في حين يتساهل مشرفو الساحات في انفاذ بقية (قوانين الساحة العربية) المكونة من لائحة أساسية وفرعية، وهي مصاغة بكثير من الاحتراف المناسب لحجم التجربة الضخم.

بالمعايير التقليدية: لا يـُـصنف العضو في الساحات «كاتباً محترفاً»، فهو لا يكتب باسمه الحقيقي، لا يوثـّـق الخبر ولا يمكن مساءلة مصداقيته، لكن الانترنت تفرض معايير جديدة: هو محترف لأنه يكتب بانتظام.. منذ أعوام ربما، ولمنهجيته الواضحة، ولانتشار ما يكتبه أحيانا بدرجة تفوق انتشار كاتب محترف. هيكل الساحة غير المحسوس، يعي هذه الاحترافية ويسعى لتعزيزها من خلال المواضيع الأرشيفية، كموضوع (صور من واقع الأحداث (أو) آخر أخبار الشيشان، أو الموضوع الذي ضرب رقما قياسيا في عدد الزيارات): ملف حرب القرن )بأكثر من 372 ألف زائر). يعوق كاتب الساحات عن الاحتراف أنه يعرف الخطوط الحمر ويتجاوزها عمـدا ويوغل في التجاوز ويسخط اذا ترتب على ذلك حذف ما كتب. احدى مشاكله الكثيرة هي فهمة للاسم المستعار كوسيلة للتحلل من كل التزام بينما هو وسيلة لالتزام أكبر، وفهـمه للرقابة كطوق يجب كـسره وهي حق يجب حيازته. التمييز في الساحات سهل بين من تصدر كتابته عن خلفية معرفية عميقة، ومن كوّن معرفته من خلال المنتديات ثم عاد ليضخ فيها ما أخذه منها، ما يكتبه هذا الأخير يشبه «مرقة الأرنب»، أما الفئة الأفضل معرفيا فهي تلك التي تضخ الدم في عروق الساحات، ووجود هؤلاء يتناقص منذ 11/9 لأن هذة الفـئة تميل الى التعبير الفردي والمغاير، الرّصانة، الكتابة المقننة بأناة.. وبينما تنجرف الساحات عكـس كل هذا.. تفر المـُـجنـّـحـات تباعاً الى صدر سـمـَواتٍ أخرى.. ويبقى من لا يملك ملكات التحليق.

«الساحة السياسية» هي القسم الأضخم وهي سبب رواج الساحة العربية واحتلالها للمركز 7557 عالميا، حسب تصنيف «اليكسا»، وهو مركز متقدم.

بمتابعة المواضيع المنـشورة يوميا في «الساحة السياسية» على مدى أسبوع ـ من 29/6 الى 4/7/2002 ـ أحصيتُ أكبر عدد من الزوار لموضوع واحد وهو 7000 زائر خلال 24 ساعة، والموضوع كان شائعة عن شخصية سياسية. بالمقابل كان الموضوع الذي حظي بزيارات اقل، هو «اشكاليات في الفكر السياسي العربي». القارئ في الساحات ينتمي الى الطبقة المتوسطة فما فوق، يطلب المعلومة لا المعرفة، يأخذ الخبر ويرفض الفكرة والتأويل، يكتفي بالتفسير المبطن الذي يمرر اليه في ثنايا الخبر، وهو بهذا يكوّن معرفة مسطحة قائمة على مخزون من الأنماط السمعية الثابتة.. لا أكثر، ويساهم أيضاً في الضغط على الكاتب في الساحات فيتجه الى الاثارة لاستقطاب الجمهور.

طبيعة الكتابات والحوار في الساحات اكتسبت نمطاً ما، جرى تكريسها نهائياً بعد 11/9، والحقيقة أنه نمطٌ لم يستحدث في الساحات، بل هي التي كشفت عنه الغطاء، وعرضت أمام الناظرين كيف يذوب اتسـّـاع الكون في ضيق (معي/ ضدي). المفاجأة التي تظهر بعد تحليل سلوك الحوار عند مختلف التيارات في الساحات، وسلوك الحوار في منتديات أخرى نقيضة التوجهات، وبقراءة الجميع دفعة واحدة وخلع الكلمات من هويتها، يتجلـّـى التشابه المدهش.. بين الجميع! كل الفرقاء يعملون بذات الآلية، يملكون تعريفا مـُـوحـّـدا للآخر وللحوار، يصدرون من وعاء سلوكي واحد وهم أبناء ثقافة تشتجر في فروعها لكنها ملتحمة الجذور متحدة المنابع. كل هذه المنتديات وخصوصاً بعد 11/9، آلت بدرجاتٍ الى المنبرية، والساحات في هذا سيدتهـن أجمعين، فقد تحولت عن موقعها كمنتدى يفسح مجالا للفردية والتعبير المستقل الى موقعٍ جديد.. منبري، توتاليتاري، تيـّـاري، خطابي، يـُـذيب الفرد في المجموع نهائيا.. منبرية الساحات وبروتوكوليتها الكبيرة أبعدتها نهائياً عن حاجة الفرد، وألصقتها تماماً بحاجة التيار.

أبرز سلوكيات الحوار في الساحات وغيرها، هي ثنائية انفعالية تزاوج في الكتابات بين (ترميز الفرد )و) تصنيف الآخر)، وهذه حالة غائرة مزمنة أفصحت عن ذاتها من خلال الساحات، اذ ينزع الكاتب في المنتدى الى «ترميز» شخصية ما.. بحيث يصنع من هذا (الفرد/ الانسان) القابل للتحول والمراجعة، يصنع منه «رمزا» يفترض فيه الثبات النهائي في صورة محددة، ويكون عرضة للنبذ والاسقاط والتهميش في حال خرج عن هذا الترميز الجامد، وتحرك عن موقعه الى سواه. انه ـ المتلقي ـ يلتقط صورة واحدة من فيلم طويل ويرفض مشاهدة البقية، وهو يعتقد داخلياً أن هذا (الفرد/ الرمز) يمثلهُ شخصياً وينطق باسم ذاته التي يعجز ان يكون. في كل تيار ستجد فرداً (مـُـرَمـّـزاً) وستجد أن عموم جمهور المنتدى يخاطبونه اختياريا بـ(سيدي ـ سعادة ـ سيادة).. ترى هذا في الساحات، وفي منتدى (د. تركي الحمد) وفي (يا حسين)، وبمجرد ان يتحرك (الفرد/ الـرمز) خارج اطار رمزيته، فانه وكما رُمـّـز بعنف، يـُـسقط بعنـف مـماثل. الشـِـق الآخر من الثنائية هو «تصنيف الآخر».. وهذا الآخر قد لا يكون مختلفاً بصورة جذرية بـل في فروع قابلة للجدال، فيتم تصنيفه ونسبه الى فئات منبوذة وفق القوالب السائدة، وفي مراحل متقدمة من التصنيف قد يتم «دك» منتديات أو مواقع معينة من قبل مجاميع هاكرز غامضة. التصنيف حيلة فعالة لحل كثير من المشاكل: للخروج من مأزق الحوار، لتعزيز الشعور بالفوقية، والأهم: لتجنب المراجعة الذاتية. هذه الثنائية (ترميز الفرد/ تصنيف الآخر)، هي المحرك الرئيسي لكل هذا الحديث الضخم عن (الآخر): كتابة في تبجيل الآخر الذي قد يكون رمزاً أو منظومة، وكتابة ضد الآخر الذي قد يكون رمزاً مضاداً او منظومة مضادة أو حتى مجرد عضوٍ آخر. الساحات معجبة جداً بالتصنيف والترمـيز: بما هو شديد البياض أو السواد، الألوان الطارفة، لكن التراجيديا هي أن جـُـل وجودنا الانـساني يتحرك في دفء الطيف الرمادي غير اليقيني، وأن الرمادية بالذات هي الحزب الذي صار أي عضو في الساحات يخشى الانتماء اليه، وبهذا أقلـعت الساحات من اختيارية المحيط الى حتمية السـاقية، مـن التمرد والتمايز الى حظائر التدجين، وبين احياء «الفرد البسيط» وتدميره... لبـِست الساحة شـملة الرتابة واستكانت. من أين جاءت ثنائية الترميز والتصنيف هذه؟ ما هو محركها الأصلي داخل طبقات العقل الجمعي؟ هذة الثنائية توفر بشكل مستمر موضوعا خارج الذات للنقاش حوله: الـرمز الذي يصير مركزا للاعجاب، والآخر الذي يمكن تصنيفه وازدراؤه ونبذه، والحقيقة أن أولئك المتورطين في الثـنائية هم أشخاص عاديون، يعيش واحدهم على هامش الأشياء، مشحونا بالعواطف، يروغ من فحص نفسه ومن النظر داخل الجـُـبـّـة، وممارسة الترميز والتصنيف تنقذه من مواجهة ذاته التي لا يثق بقدراتها، وهذا نموذج ممتـاز لمنتجات الثـقافة التي لا تؤمن بالفرد والتي ينسحق فيها تماما بازاء القوالب والمـسلـمات. ذات الحالة تتمثل في «منهج الاقتباسات»، وهو مطالبة أطراف الحوار بعضهم بحشد الاقتباسات والاحالات على نصوص خارجية لكـُـتـّـاب آخرين، اذ لا يرغب أحدهم في النظر الى المنطق الشخصي للمـُـحاور الآخر لأنه لا يؤمن به مثلما أنه لا يؤمن بذاته. هذة العقلية الاقتباسية تقتل أي فرصة لانتاج ما يعول عليه للتجديد. ومنهج الاقـتـباسات نتيجة عادية للوصاية الأبوية المطلقة التي تنتج أسفل منها عقلية قاصـرة وستبقى قاصر الى الأبد ما بقيت لاجئة أزلية الى أحضان الآخر: الرمز والضد والمبجل والمنبوذ.. في دائرة عبثية تنطلق من الآخر لتعود اليه، ولا تتجاوز نقطة الصفر في جميع الأحوال.

يسري الركب ولا يدري. وبعد كل. لا يفهم أعضاء الساحات، لماذا تحولت مساحة التعبير الفردية التي فـُـتحت لهم من خلال الانترنت الى منابر وأبراج خانقة، أو لماذا يـسهل التلاعب بهم وجرهم الى حـُـمـّـى الطائفية والقبلية بصورة مـُـخجـِـلة كما حدث في يونيو ويوليو الماضيـين، أو لماذا انجرفوا الى هستيريا جلد الذات خلال أحداث «جنين»، ولا سبب الأحداث التي أعقبت صدور بيان «على أي أساس نتعايش»، انهم يلعبون على وتر لا يعرفون اسمه، ويأخذون دور حصان طروادة الأجوف ويستبطنون من لا يعرفون، ويذهبون في اتجاه خطير تسيـّـرهم اليه أخلاط ٌ من منافع استثمارية الكترونية، ونزعات شخصية أليمة. الساحة العربية تمثل حالة متقدمة بينما جـُـل المنتديات لا تزال في بدايتها، تجنح طروحاتها نحو الـتفرد، تساعدها في هذا قلة عدد الأعضاء وحداثة التأسيس، لكن المنبرية الخاوية تتهدد الجميع، وتلوّح بامكانية اغلاق هذا المنفذ الذي أطلق حرية التعبير الفردي وفتح طاقة للاحـتمالات.. في الساحة العربية، ومنتديات اخرى صغيرة لا يعرفها احد، ثمة من يكتب بدعا جميلة، فتكون أقـرب الى الحقيقة، ويكتب ليعزز يقينك، ويكتب ليهدم حوائط العزلة، ويكتب مؤمنا. مستبشرا. طلقا حرا جديدا، هذا هو من سينقذ التجربة والذي من أجله يجب أن تبقى وتكون.

التوقيع الذي يختارة عضو الساحات، وسيلة بليغة لتعبيره عن ذاته، بل قد يكون الشيء الوحيد الذي يعبر عن خصوصيتها. وفي الساحات ثمـّـة من اتخذ «الله مولانا ولا مولى لهم» توقيعا ثابتا، وآخرون كتبوا كلمات كـ«هذا رأيي وهو غير ملزم لأحد» أو «أف .. حـر»، «أدعوا لي بالزوجة الصالحة»، «ليس المهم أن تموت، بل كيف تموت»، «الخلاف وارد والحق واحد».. أما أكثرهم فرادة وشغباً فهو من كتب «الأرض مسطحة وهي مركز الكون»، و«عنزة ولو طارت»، وكتب آخر في توقيعه «أجمل الأيام.. يوم ٌ لم نعشه بعد».. أرجو ذلك.

مواقع نموذجية يمكن زيارتها:

www.alsaha.com http://alsaha.fares.net/[email protected]^[email protected]