«نصيحة مخلصة» تروق لهم

TT

يخطئ من ينصح اسرائيل بالانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، يخطئ من يطالب واشنطن بالضغط على تل ابيب، ويخطئ من يوجه للطرفين نصيحة صادقة بالاسراع في التوصل الى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية. كفى يا اهل النصح، ليس هناك ما يدعو الى تضييع الوقت. ليس هناك ما يبرر اهدار الجهد. فالطرفان أصما آذانهما وصمما عزمهما على رفض اي نصيحة من هذا النوع. ولأن حقهما في عالم يكفل حرية الرأي يجيز لهما التمسك بما يعتقدان انه الرأي الأكثر صوابا، فإن «النصحية المخلصة» التي ستروق لهما يمكن تخيلها على النحو التالي:

استمري يا اسرائيل في حبس الشعب الفلسطيني وراء جدران غزة والضفة، ارفعي اسوارك عاليا، عاليا، علّيها ما شاء لك ان تعليها، وواصلي إذلال الفلسطينيين ليلا ونهارا، استمري في تجويعهم، وتعطيشهم. استمري يا اسرائيل في زهق ارواح الأجنة في بطون الامهات، واقتلي الحوامل عند الحواجز وفي غرف النوم وعنابر المستشفيات. «دافعوا» يا جنود ومجندات «جيش الدفاع» عن «فن» القتل البارد، وحذار ان ترحموا او ترحمن صبيا او صبية، إياكم وإياكن من غواية الشفقة بكهلٍ او امرأة مسنّة.

وأنت يا واشنطن، استمري في محض تل ابيب مباركتك وبركاتك. عيب عليك ان تعبسي في وجه شارون. عار عليك ان تزجريه، ولو سرا. بل واصلي له العطاء والتكريم. افتحي له الابواب. افرشي له السجاد. رشيه بالعطور، وطوقيه بأكاليل الزهور. كيف لا؟ أليس هو الصديق الصدوق؟ أليس هو «رجل السلام»؟ أليس هو المشرد المسكين الذي قست قلوب الاخرين عليه فرجمته بالحجارة؟ إياكِ واشنطن ان تتخلي عن «الضحية»، عيب! ثم حاذري وحاذري الف مرة ومرة من ان تضعفي امام غواية المصلحة. لا عليك من مصلحة شعبك! ما هذا السخف؟ وما عليك من صداقات وعلاقات أقدم من عمر اسرائيل كلها! أي هراء هذا؟ ثم لماذا القلق وبين يديك «ارماغادا» تفرض أي «بزنس» تشتهين، إن في مشارق الارض او في مغاربها، شاء من شاء وكره من كره.

* * * فقط هكذا «نصيحة» تروق لاسرائيل وأميركا هذه الايام، يسمعونها كما لو انها الموسيقى تصدح في اروع تجلياتها، فتنتعش القلوب وتستجيب العقول. ثم انها ليست فقط «نصيحة مخلصة»، بل هي ايضا وصفة صحيحة لتفريخ جماعات جديدة من عدو يُفترض انهم يشنون عليه حربا لا هوادة فيها، فاذا بسياساتهم تشكل حاضنة تفريخ لنسله. مثال على ذلك؟ بسيطة، ها هو لبنان يشهد اعراس ولادة جديدة، الصواريخ تتطاير والرصاص يزغرد في «عين الحلوة» فيفقأها للمرة الألف، احتفاء بولادة «جماعة النور» التي لا تخفي عزمها على ادخال آلاف البشر الى ظلمات القتل، واغراقهم في «برك» الدم! أي «نور» هذا؟ من أين يخرج هؤلاء، وأي رحم هذا الذي يلد من لا يعرف الرحمة؟

الواقع انه ليس نورا، بل هو ظلام جهل وتطرف، يخرج من رحم الغلو الأعمى، ومن رحم التجاهل المتمادي لظلم تجاوز في تطرفه كل مدى. وما دام هذا الحال قائما، ما دامت اسرائيل تواصل طغيانها المستمر منذ اكثر من نصف قرن، وساسة اميركا يواصلون ما هم عليه، مخلصين لاسرائيل الولاء والعطاء... فليبشروا إذن، بطول حروبهم ضد الارهاب والتطرف، وبالمزيد منهما. أليسوا بحاجة الى عدو يطاردونه ويطاردهم؟ مبروك عليهم... وعليه. يبدو انهما يليقان ببعضهما.