هاملت السفياني

TT

كلما شاهدت مسرحية هاملت في رؤية جديدة واخراج مختلف يذهب الذهن العربي بعيدا الى هاملت السفياني، وهو خالد بن يزيد بن معاوية الذي لم يقتل قريبه بيده حين استولى على الحكم بعد ابيه اثر مؤامرة معروفة انما ترك لأمه التي تزوجت مروان بعد يزيد ان تقوم نيابة عنه بتلك المهمة السهلة.

وفي القلوب ما فيها من المؤامرات وحب التسلط والاعيب الكواليس لكن الرواة يلغون كل هذه الخلفيات، ويعيدون موت مروان بن الحكم الى حادثة ذات طابع شبقي تجتمع فيه قلة الذوق والاهانة المبطنة مع الرغبة في اذلال ابن حاكم سابق، وهذه نكهة هاملتية صرفة، فعم هاملت الذي قتل أباه ثم تزوج امه ليستولي على سريره وعرشه معا كثيرا ما كان يمارس اذلال هاملت بأسلوب يخلو من أي احساس بالمسؤولية.

وكان هاملت الدنماركي يكتمها في نفسه اما هاملت السفياني فلم يطق ذلك، وعاتب على الفور امه التي وضعته في ذلك الموقع المهين وجعلت رجلا آخر يهينه لمجرد انه يدخل مخدعها ويباضعها بعد ابيه.

واكمل رواية عن نهاية مروان بن الحكم بعد المقدمات الهاملتية نجدها عند ابي طاهر في كتاب «بلاغات النساء» حيث يقول: تزوج مروان بن الحكم أم خالد بن يزيد بن معاوية فقال له ذات يوم في خلاف جرى بينهما يا ابن الرطبة، فغص خالد وقال ما معناه: لا يمكن ان نكذب من كان بها خبيرا.

ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» يحرف قليلا في الاهانة فيزعم ان مروان قال لخالد يا ابن «الربوخ»، وفي المعاجم ان الربوخ هي المرأة التي يغشى عليها عند الجماع، فأتى خالد أمه واخبرها الخبر وقال: انت فعلت بي هذا، فقالت: دعه فانه لا يقولها بعد اليوم.

والبلاغة المختصرة في عبارتها الأخيرة اما البلاغة الحقيقية ففي قدرتها على التنفيذ السريع ولنستمع الى بقية القصة باسلوب صاحب «بلاغات النساء».

... فدخل عليها مروان وقال: اخبرك خالد بشيء؟ قالت: يا امير المؤمنين خالد يجلك ولا ينقل لاحد ما يدور بينك وبينه، فاستراح للجواب، وتشاغلت عنه بعض الوقت ثم دخلت المخدع الذي شهد ربوخها ورطوبتها فوضعت على وجهه مرفقة (مخدة) وقعدت عليه هي وجواريها حتى مات.

ومن الهاملتية الى الفرويدية فأنت لا تعرف هنا هل كانت ام خالد تنتقم لاهانة ابنها ام ترد الاهانة عن نفسها وان شئت ان تطنش عن المعنى المباشر فالمعنى العميق فيه مديح لها كأنثى لكن من قال لك ان النساء يفرحن بنقل اسرارهن الحميمة الى أي احد فما بالك بالجار والولد.

لقد خُلقت حميمية المخدع لتظل بمثابة «جنة سرية» اسرارها بين اثنين فقط يمتلكان مفاتيحها، وحين تخرج عن ذلك الاطار تصبح شيئا آخر، وتدخل في اطار الخيانة والاهانة والتشهير والغدر. وسواء انتقمت ام خالد بن يزيد لنفسها ام لكرامة ابنها فانها كانت بنظر اهل زمانها الذين اثنوا على فعلتها تقوم بما تراه صحيحا من وجهة نظر الانثى التقليدية كما صنعها ويريدها المجتمع التقليدي ان تكون.

في هاملت لم تصل وقاحة العم الى حد افشاء اسرار المخدع الزوجي بعرقه ورطوبته امام ابن المرأة التي جعلها جزءا من الغنيمة بل اكتفى بتكريس شرعية السلب والنهب رمزا. فشهوة السلطة لا تكتمل دون ان يأخذ المنتصر من المهزوم او المقتول كل شيء فدوق ويلنغتون ـ مثلا ـ لم يكتمل انتصاره على نابليون الا بعد ان استولى على عشيقته راقصة الاوبرا الايطالية، فكأن انتصار الميدان يظل ناقصا في العرف الكلاسيكي ما لم يتكرس في المخادع، حيث الانتصار الوحيد الذي تعترف به الذكورة العربية والاجنبية.

ان هاملت السفياني حقيقة من لحم ودم، وهاملت الدانماركي شطحة خيال موفقة من كاتب عبقري، والواقع احيانا اغرب من كل خيال وهذا ما يجعل التاريخ الحقيقي مادة لا تنضب لكتاب المسرح والسينما، ومن سوء حظ التاريخ العربي فإنه ما يزال بكرا امام ابتكارات الفن واستعاراته، فنحن ركزنا على صقر قريش وصلاح الدين وغيرهما من الشخصيات المكتملة ونسينا الأهم فنيا وهي الشخصيات القلقة المضطربة المنقسمة المرتبكة كهاملت الدانماركي وهاملت السفياني فهذه الشخصيات اكثر استجابة واثارة وغنى، وهي الاقدر على منح الطاقة والحيوية لكل عمل درامي أصيل.