البروز الإسرائيلي المفاجئ في الصورة!

TT

في غمرة الجدل الصاخب المتصاعد حول الضربة الأميركية المرتقبة للعراق والسعي لإطاحة نظامه تبرز إسرائيل مفاجأة في الصورة ويبدأ الأميركيون والإسرائيليون في تداول «سيناريوهات» وتصورات تتعلق باحتمال استهداف الدولة العبرية بوجبة الصواريخ العراقية الأولى لتحويل الحرب من حرب بين بغداد من جهة والولايات المتحدة وقوى المعارضة العراقية من جهة أخرى، إلى حرب عربية ـ إسرائيلية.

وتستند هذه الـ «سيناريوهات» والتصورات لما يمكن عمله فور بدء الحرب أو قبل ذلك بقليل إلى أن نظام الرئيس صدام حسين سيلجأ هذه المرة إلى ما لجأ إليه في المرة الأولى عندما وجه نحو ثلاث دزينات من الصواريخ المتوسطة المدى من طراز «سكاد» إلى تل أبيب وأن طبيعة المواجهة الجديدة قد تدفع النظام العراقي المستهدف ببقائه ووجوده إلى تحميل هذه الصواريخ بمواد كيماوية وبيولوجية وأيضاً ربما نووية.

والمعروف أن الرئيس العراقي حاول جاهداً اضفاء طابع قوي وتحرري على قفزته غير الموفقة في اتجاه الكويت وأنه قايض، في مرحلة من مراحل تلك الأزمة، سحب قواته من الأراضي الكويتية مقابل انسحاب القوات الاسرائيلية من الأراضي الفلسطينية، أي من الضفة الغربية والقطاع، وأنه عندما لم يحالف النجاح تلك المحاولة أطلق مع بداية هجوم التحالف الذي قادته الولايات المتحدة قرابة تسعة وثلاثين صاروخاً، بدون أسلحة كيماوية ولا جرثومية ولا نووية، إلى تل أبيب وبعض المدن الإسرائيلية الأخرى.

كان اعتقاد صدام حسين أن إسرائيل سترد إما بهجوم بري عبر الأراضي الأردنية وإما بغارات جوية وقصف صاروخي، الأمر الذي سيؤدي إلى خلط الأوراق وإلى بروز الإسرائيليين كعامل رئيسي في الحرب على العراق مما سيحرج الأنظمة العربية كلها المشاركة والمتفرجة. لكن هذا التقدير أثبت عدم صوابيته عندما تحرك الأميركيون بسرعة وفرضوا على إسرائيل التزام الهدوء وعدم الرد مقابل رشوة قوامها عدد من بطاريات صواريخ «باتريوت» المضادة للصواريخ ومساعدات وتعويضات مالية سخية ومجزية.

كان الإسرائيليون يتحرقون شوقاً لخوض غمار تلك الحرب وكان هدفهم إثبات أن الغرب والولايات المتحدة تحديداً لا يزال بحاجة إليهم حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة، لكن الرئيس الأميركي بوش الأول، معتمداً على نصائح وزير خارجيته جيمس بيكر الثالث، حال دون تحقيق هذه الرغبة للإسرائيليين لسببين هما:

أولاً، الحفاظ على الحلف السياسي والعسكري الذي بذل جهوداً كبيرة ومضنية في بنائه لمواجهة العراق تحت راية دولية والحرص على عدم إحراج الدول العربية التي شاركت في هذا الحلف إما بقوات عسكرية رمزية وإما بجيوش جرارة فعلية.

ثانيا، قطع الطريق على إسرائيل ومنعها من استغلال مشاركتها في أي جهد عسكري ضد العراق لفرض تصوراتها ووجهة نظرها على عملية السلام التي بدأت لاحقاً بانعقاد مؤتمر مدريد والتي كان الأميركيون قد قرروا إطلاقها بمجرد حسم المعركة العسكرية مع صدام حسين وإخراج قواته من الأراضي الكويتية وتحويل العراق من دولة رئيسية وأساسية في الشرق الأوسط إلى دولة هامشية لا دور لها.

الآن.. يجزم الإسرائيليون والأميركيون بأن صدام حسين سيعيد الكرة هذه المرة ولكنه لن يرسل صواريخه إلى تل أبيب والمدن الإسرائيلية مجرد قطع وكتل من الحديد، بل انه، لأن المواجهة تستهدفه شخصياً وتستهدف نظامه، سيبادر إلى تحميلها بأسلحة جرثومية وكيمياوية لحمل إسرائيل على الرد ولإلهاب حماس الجماهير العربية ودفعها إلى الالتفاف حوله ومعاداة أي نظام عربي يقف ضده.

ولذلك، وحسب المعلومات، فإن «البنتاغون» الأميركي وهو ينهمك في إعداد خطط الهجوم لإطاحة نظام صدام حسين يضع احتمال تعرض إسرائيل لهجوم عراقي على رأس سلم أولوياته ولذلك فإنه وضع خطة طوارئ من أجل هذه الغاية تستند إلى الخطوات التالية:

* الاستعداد المسبق في إطار التحالف الاستراتيجي الأميركي ـ الإسرائيلي وإرسال دعم طارئ إلى إسرائيل قبل بدء الهجوم الأميركي على العراق والأخذ بعين الاعتبار أن يتمثل هذا الدعم في حماية المدنيين الإسرائيليين من التعرض لأي هجوم بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية.

* الإسراع، وعلى غرار ما جرى في العام 1991، بإرسال خبراء أميركيين والمزيد من صواريخ «باتريوت» إلى إسرائيل لتكون جاهزة وعلى أهبة الاستعداد لاعتراض الصواريخ العراقية والتصدي لها.

* التحضير ومنذ الآن لاستهداف أي موقع أو مطار عراقي من المتوقع أن يكون منطلقاً للهجوم العراقي المرتقب على إسرائيل، وهنا فإن الأنظار تتجه إلى مناطق غربي العراق القريبة من الحدود مع الأردن والمملكة العربية السعودية وربما سوريا أيضاً.

إن هذا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية قد تبدي مرونة هذه المرة، وبحجة ضرورة الدفاع عن النفس، تجاه مشاركة إسرائيل في الحرب الجديدة وبخاصة إذا استهدفت الصواريخ العراقية المدن الإسرائيلية وإذا استخدم العراقيون كمنطلق لهذا الهجوم قواعد ومنصات في المناطق المحاددة للأردن.

في الحرب السابقة كان الأردن الدولة العربية الوحيدة التي وقفت إلى جانب العراق، بالفعل وليس بالقول، لكن ذلك لم يشفع لها بأن لا يطلق صدام حسين وجبة صواريخه إلى المدن الإسرائيلية ويعرض أمنها للأخطار الحقيقية والفعلية لولا أن ظروف تلك الفترة وحساباتها ومعطياتها دفعت الأميركيين إلى ممارسة ضغوط هائلة على الإسرائيليين لمنعهم من الرد عبر الاراضي والأجواء الأردنية سواء بقوات برية أو غارات جوية وقصف صاروخي.

في العام 1991 غامر الأردن حتى بكيانه ونظامه ووقف إلى جانب العراق ضد كل أمم الأرض وضد كل الدول العربية قاطبة، وكان المفترض أن لا تعرضه بغداد لأية أخطار وأن لا تبادر لإرسال الصواريخ التي أرسلتها إلى تل أبيب، ليس مساندة للشعب الفلسطيني وإنما لاستدراج إسرائيل إلى رد فعل كان المعروف أنه سيتم عبر الأراضي والأجواء الأردنية، وكان المعروف أيضاً أن هذا الرد سيدخل «القطر الشقيق» في مأزق قاتل وسيعرضه لأخطار حقيقية.

كان هذا قبل أكثر من عشرة أعوام، عندما كانت الحرب لا تستهدف سوى إخراج القوات العراقية من الكويت ولا تطالب برأس صدام حسين، أما الآن وقد تغيرت الأهداف وأصبح عنوان الحرب إطاحة نظام حزب البعث في بغداد فإن مما لا شك فيه أن الرئيس العراقي سيعود وبالتأكيد إلى لعبة استدراج إسرائيل للمشاركة في الحرب ضده بهدف خلط الأوراق وتهييج الشوارع العربية ورفع حدة المواجهة بين الشعب الفلسطيني والدولة المحتلة.

.. إن هذا يعني، إذا لم تتدخل الولايات المتحدة مرة أخرى وتمنع إسرائيل من الرد، أن الأردن سيواجه أخطاراً فعلية وحقيقية وهذا ربما هو الذي عناه الاستاذ وليد جنبلاط في تصريحه الذي نقلته صحيفة عربية تصدر مناصفة بين لندن وبيروت والذي قال فيه إن دواليب الزمن تدور وإن الأردنيين قد يضطرون ذات يوم إلى اللجوء إلى لبنان و«المختارة»! لن يلجأ الأردنيون لا إلى لبنان ولا إلى «المختارة»، واللجوء والهجرة ليس من عادة الأردنيين، وهم سيدافعون عن بلدهم وكيانهم ونظامهم ببسالة، ولكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار ومنذ الآن أنه إذا كانت علاقات الأردن المميزة عام 1991 بالعراق لم تمنع الرئيس العراقي من تعريض أمن الأردن لأشد الأخطار القاتلة عندما وجه صواريخه «الاستدراجية» إلى تل أبيب فإن ما هو متوقع هذه المرة، سيكون أكثر خطورة.. وهذا يفرض على المسؤولين الأردنيين أن تكون حساباتهم دقيقة وأن لا ينقادوا لشعارات الشارع وهتافاته وأن لا يجرهم المزايدون إلى مواقف مكلفة.

يختلف وضع الأردن عن كل أوضاع الدول العربية، فموقعه الجغرافي وضعه بين المطرقة والسندان وفرض عليه أن تكون حساباته دقيقة جدا، وحرمه من ترف اتخاذ المواقف غير المكلفة، والمثل يقول «إن الذي يده في النار ليس كالذي يده في الماء» وأنه إذا كان هناك من يستطيع من موقعه البعيد أن يغرِّد بما يشتهي وأن يقول ما يشاء، فإن هذا البلد، الأردن، أوضاعه خاصة وإن قدر الدولة الأردنية أن تقوم فوق هذا الجزء من الوطن العربي وأن تكون في مواجهة وفي رباط دائم إلى يوم الدين.

بصراحة.. إن الأردن وهو يكرر يوماً أنه ضد أي عمل عسكري ضد العراق فإنه مضطر إلى مواقف مرنة جداً مع الولايات المتحدة، فهذه الدولة هي الجهة الوحيدة في العالم القادرة على كبح النزوات الإسرائيلية وهي الجهة الوحيدة في العالم القادرة على منع شارون من تنفيذ ما في قلبه الأسود وما في ذهنه المريض وأول هذا هو دفع الفلسطينيين تحت وطأة المستجدات للنزوح في هجرة جماعية نحو الشرق.