حيث تسود الحرية

TT

كلما قضيت وقتا أطول في الهند تزيد قناعتك بأن هذا البلد، المتعدد الأعراق والأديان واللغات، يعد واحدة من أعظم عجائب الكون، وانه يمثل معجزة تحمل رسالة مفادها ان الديمقراطية شيء هام.

هذه الحقيقة تتجلى أمام زائر الهند في كل ركن. فمدينة بانغلور، على سبيل المثال، تزدحم شوارعها هذه الأيام بشباب الهند من عشاق التكنولوجيا، ومعظمهم ينتمون لأسفل الطبقة المتوسطة، ممن حصلوا على فرص عمل وشقق سكنية ودراجات نارية لقدرتهم على توفير الطاقة البشرية الذكية التي تتطلبها كبرى شركات العالم. وبينما لا يمكن تجاهل أهمية ما توصل اليه هؤلاء الشباب المبدعون في مجال برامج الكومبيوتر، فمن المؤكد ان ما جعل مدينة كهذه تحظى بما هي عليه هو شيء آخر تماما، فخمسون عاما من ديمقراطية الهند والنظام التعليمي العلماني والأعوام الخمسة عشر من تحرير الاقتصاد، جميعها أنتجت هذه الطاقة البناءة.

واذا ما عبرت حدود الهند باتجاه باكستان المجاورة، حيث يشترك البلدان في نفس الدماء والعقول والتراث الحضاري، ستجد ان خمسين عاما من الديمقراطية التي لم تنجح والانقلابات العسكرية والتعاليم الدينية المفروضة، أنتجت عشرات الالاف من المدارس الدينية التي حلت مكان نظام التعليم العام المنهار، وتخرج منها شباب باكستاني لا يجيد سوى كراهية غير المسلمين.

ومع ذلك، الهند ليست قطعة من الجنة. فخلال شهر فبراير (شباط) الماضي، شهدت ولاية غوجارات التي يحكمها حزب بهارتيا جانتا بارتي (بي.جي.بي) الهندوسي حملة قام بها متعصبون هندوس ضد المسلمين، مما أدى لمقتل قرابة 600 مسلم وعشرات الهندوس. وقد كان حدثا مشينا، واعتبر مؤشرا خطيرا في الهند التي يقطنها 150 مليون مسلم، يشكلون أعلى أقلية مسلمة تسكن أي بلد في العالم. هل تدرون ماذا حدث بعد ذلك؟ لم يحدث شيء.

فأعمال الشغب لم تنتشر في أماكن أخرى. أحد أسباب ذلك هو تاريخ عريق من عيش المسلمين والهندوس الهنود معا في قرى وبلدات هذا البلد، ومن اقتسامهم لمؤسسات مشتركة، وامتزاج ثقافتهم ومعتقداتهم. أما السبب الرئيسي فهو الديمقراطية. كما ان الصحافة الهندية المستقلة بادرت عاجلا الى الكشف عن كيفية تشجيع الحكومة المحلية الهندوسية لأعمال الشغب من أجل أغراض انتخابية، مما دفع حزب بي جي بي لعموم الهند، الذي يتزعم الائتلاف الحاكم، لاستبعاد علاقته بما حدث في غوجارات، لأن عددا من أعضائه يعتمدون على أصوات الناخبين المسلمين في دوائرهم لاعادة انتخابهم. فالديمقراطية في الهند تجبر كل من يرغب في تحقيق النجاح على المستوى القومي على أن يتجاوز الحدود العرقية في مخاطبته للناخبين.

يقول سيد شهاب الدين، رئيس تحرير مجلة «مسلم انديا» الشهرية، وهو دبلوماسي سابق : «حتى عندما كانت غوجارات تحترق، كانت بقية أنحاء الهند تعيش في سلام، لأن تلك هي الطبيعة المألوفة هنا. فالهند بلد ديمقراطي، والأكثر من ذلك انها ديمقراطية علمانية، على الأقل من حيث المبدأ، وهى تحافظ على مستوى معين من التطلع والأمل للمسلمين... ولو لم تكن هناك ديمقراطية في الهند، فان الفوضى والفزع سينتشران، لأن هناك العديد من المجاميع المختلفة التي تتطلع للحصول على نصيبها من قطعة الحلوى». وأضاف شهاب الدين: «ان هذا الوضع قائم بالتحديد وفقا لاطار دستوري»، مشيرا الى أن المسلمين الهنود ليس عليهم اللجوء للعنف باعتبارهم أقلية، حيث قال: «يمكنك دائما أن تنشد العدالة الاقتصادية والسياسية هنا».

من أجل هذه الأسباب ستكون الولايات المتحدة مخطئة للغاية اذا لم تضغط من أجل مزيد من الديمقراطية في العالمين العربي والاسلامي. فهل تصادف فقط ان الهند التي تقطنها أكبر أقلية مسلمة في العالم، وتعاني من العديد من المتاعب الاقتصادية، ليس لديها مواطن واحد عثر عليه ينتمي لتنظيم «القاعدة»؟ وهل تصادف فقط ان الهند وباكستان خاضتا حربين واسعتي النطاق، خلال عامي 1965 و1971، لأن حكاما عسكريين كانوا يسيطرون على باكستان؟ وهل تصادف فقط انه عندما شهدت باكستان انتخابات حرة، لم يحصل الأصوليون الاسلاميون على أكثر من ستة في المائة من أصوات الناخبين؟

هل من المصادفة أيضا أن أغنى رجل في الهند هو مسلم هندي يعمل في مجال برامج الكومبيوتر، بينما أغنى رجل في باكستان، وهنا سأخمن فقط، ينتمي الى واحدة من خمسين عائلة اقطاعية هيمنت على البلاد منذ استقلالها؟

وهل من المصادفة فقط ان المكان الوحيد في العالم الاسلامي حيث شعرت المرأة بالقوة الى درجة انها طالبت بالمساواة في حق أداء الصلاة في المسجد، كان في مدينة حيدر أباد الهندية؟ كلا، لقد كان ذلك كله نتاجا للديمقراطية. ففي دولة اسلامية ديمقراطية فقط يمكن تبني الاصلاحات التي قام بها المعتدلون المسيحيون واليهود. يطرح البعض ان الاسلام دين غير متسامح. لكنني لا أتفق معهم. فما يدفع هؤلاء على قول ذلك هو ان هناك فقط العديد من المسلمين الذين يشعرون بالغضب، لأنهم يعيشون في ظل أنظمة تعسفية، حيث لا يسود حكم القانون، وحيث لا تشعر المرأة بالقوة، وحيث لا يتمتع الشباب برأي فيما يتعلق بمستقبلهم. ما يحدث هو انعكاس لأوضاع قائمة وليس للدين. واقع الحال في الهند يعني الرسالة التالية للعالم: ان الأمور متشابكة، واذا ما شهدت الظروف التي يعيشها المسلمون تغييرا فإننا سنشهد تغيرات عدة.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»