السودان: تبعات السلام السياسية

TT

مع صعوبة القضايا التي ستتناولها الجولة الثانية من مباحثات السلام السودانية التي افتتحت في مدينة ماشاكوس الكينية الاثنين الماضي وتستمر خمسة اسابيع متصلة، الا ان السؤال الذي يطرح نفسه باستمرار اذا كانت الجولة الحالية التي يؤمل ان تنتهي بوقف رسمي لاطلاق النار ستفتح الباب امام سلام دائم، وما الضمان لعدم بروز تمرد جديد، خاصة والمفاوضات تقتصر على جانبي الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان فقط، تاركة بقية القوى السياسية على مقاعد المتفرجين.

وفي البال تجربة اتفاق اديس ابابا الذي انهى الحرب الاهلية الاولى عام 1972. عقد السلام الذي وفرته تلك الاتفاقية تضعضع وانهار لان الرجلين اللذين وقعا الاتفاقية وقتها الرئيس الاسبق جعفر النميري واللواء جوزيف لاجو قائد التمرد قررا ولاسباب تخصهما تعديل الاتفاقية وكانها شان خاص بهما وحدهما، الامر الذي فتح الباب امام اندلاع التمرد الجديد في العام 1983، وهو ما وجد تعاطفا بدرجات متفاوتة من القوى السياسية الاخرى التي تجاهلها ذلك الاتفاق.

ورغم ان المساعي الحالية لتحقيق السلام في السودان هذه المرة تختلف عما حدث قبل 30 عاما خاصة لجهة الحضور الدولي والاقليمي المكثف، الذي يمكن ان ينتهي بضمانات دستورية وسياسية لتاكيد تنفيذ ما يتفق عليه، وهو ما لم يكن متوفرا في المرة السابقة، مما سهل على النميري ولاجو الانقلاب على الاتفاقية، الا ان الضمانة الرئيسية تبقى ما ينبع من الارض ويكتسب له بعدا شعبيا، ولهذا تبدو الديمقراطية ومشاركة كل القوى السياسية ضرورة لاستمرار السلام في السودان.

والديمقراطية المقصودة هي تلك التي تتيح الفرصة للتعبير عن المظالم وتغييرها سلميا، الامر الذي يتطلب وجود آليات مثل الصحافة الحرة والقضاء المستقل والانتخابات التي تؤدي الى تداول السلطة، وفوق هذا تواصي كل القوى السياسية على الصبر على الممارسة الديمقراطية ببطئها ونواقصها وإخفاقاتها احيانا والالتزام ان يمر طريق التغيير بصندوق الانتخابات. وهذا هو الطريق الوحيد الذي يقلل من فرص نشوء تمرد جديد إن لم يلغها تماما والقدرة على محاصرته.

مبدئيا لا تبدو الصورة مبشرة لجهة اقتصار المفاوضات على طرفي الحكومة والحركة، الامر الذي يحرم بقية القوى من المشاركة وبالتالي يضعها في دائرة التعاطي السلبي مع اي اتفاق يمكن التوصل اليه. لكن واقع الحال يشير الى تناول ملف القضية السودانية المعقد يتطلب في البداية تحقيق السلام، مما يفتح الباب امام معالجة القضايا الاخرى. وبما ان تحقيق السلام يتطلب اتفاق المحاربين، فان القوى السياسية الاخرى التي لم تنجح في تحقيق وجود عسكري لها تجد نفسها تلقائيا خارج غرفة المفاوضات، وهو ما تجاوزه التجمع الوطني الديمقراطي بالحديث عن تفويض الحركة الشعبية في المفاوضات وذلك رفعا للحرج.

على ان الادهى من ذلك ان الوجود الفاعل لهذه القوى في الشارع وسط الناس لا يزال امرا تحيط به الشكوك بسبب الضعف الذي ينتاب حضورها الجماهيري. صحيح ان السنوات الطويلة بحظر النشاط السياسي كان لها تاثيرها، لكن ذلك لا يبرر حالة البيات الشتوي التي تعيشها هذه القوى باحزابها ونقاباتها، اذ لم تستطع حتى الاستفادة الكلية من الهامش المتاح حاليا للحركة. ومؤخرا قامت الحكومة بخطوة ايجابية والسماح للاحزاب التاريخية من تلك التي كان لها وجود نيابي قبل انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989 بممارسة نشاطها ودون التسجيل وفق قانون الاحزاب الذي استنته وعارضته تلك الاحزاب. وهو ما يلقي بالكرة في ملعب تلك الاحزاب ويضعها في مواجهة مع جماهيرها لاكتساب شرعية جديدة بعد 13 عاما دخلت فيها اجيال جديدة من الشباب الى الحلبة ليست معنية بالانجازات التاريخية ولا الصراعات الحزبية التي كانت دائرة ولا تمثل لها شيئا اذ انها لا تقدم حلولا للمتاعب التي تواجهها في حياتها.

هذا الوضع يضع القوى السياسية امام محك لم تمر بمثله من قبل وهو مواجهة قصورها وجماهيرها. فهي في السابق كانت مشغولة اما بتبعات الحكم او معارضة الانظمة العسكرية، الامر الذي يجعلها تنصرف عن قضايا ترتيب اوضاعها الداخلية بما فيها من بناء تنظيمي واشاعة للديمقراطية وذلك من باب الا صوت يعلو فوق صوت معركة المواجهة.

تراجع حالة المواجهة مع النظام القائم والبعد عن السلطة سيزيد من الموجات المطالبة بالتغيير والتجديد، وهو ما يشهده حزب الامة حاليا وبدرجة اقل الحزب الاتحادي الديمقراطي، كما ان حالة الاقصاء والتهميش التي تعرض لها الدكتور حسن الترابي مؤشر لما يمكن ان يؤول اليه وضع القيادات التاريخية في الاحزاب السودانية والايماءة الى حالة الفصام السياسي بين الاجيال التي تحتاج تناولا ومعالجة مختلفة.

والتحدي لا يقف عند هذا الحد فقط، وانما هناك منطقة الوسط التي لا تزال شاغرة في الحياة السياسية السودانية، تماما مثل غياب الحزب الذي ينجح في مد اذرعه فوق التقاطعات الاثنية والطائفية وفوقها بين الشمال والجنوب. مؤخرا اعلنت الحركة الشعبية عن عزمها التحول الى حزب سياسي حال التوصل الى اتفاق والعمل داخل السودان في محاولة لاستقطاب عضوية لها من الشماليين الى جانب الجنوبيين، وهو امر اذا حدث سيكون علامة فارقة في تاريخ التطور السياسي والحزبي في السودان. فاحد متاعب التجارب الديمقراطية في السودان عدم وجود الحزب الذي يكتسب الصفة القومية فعلا. وبقدر ما تشكل الخلفية العسكرية والقبلية والتيارات المتباينة التي تموج داخلها قيدا على مستقبل الحركة، فان وجود فراغ واضح في منطقة الوسط ومعاناة الاحزاب الكبيرة من الانشقاقات وعدم وجود حزب يمثل البناء القومي في البلاد يوفر فرصة يمكن ان تستفيد منها الحركة الممتطية تيار السلام لاقتناصها. ان السودان يقف على ابواب تحولات كبرى سياسية واقتصادية واجتماعية مدخلها السلام الذي بدات تباشيره تلوح في الافق. الطريق الذي يسلكه هذا السلام عبر دخول قوى جنوبية جديدة بقوة على الساحة من باب رؤى وممارسة مستقلة وليست استيعابا في إطار النظام القائم يفتح الباب امام تيار التغيير، الذي سيطال المؤسسة السياسية باحزابها وزعاماتها ويفرض عليها تغيير جلدها سواء عبر استبدال الوجوه او الممارسات، او الاستعداد للانزواء مثلما حدث مع احزاب وقوى سياسية اخرى شرقا وغربا وجدت راحتها الابدية في الانقراض.