أصوات العقلاء تقلق قارعي طبول الحرب

TT

ما أن ادلى وزير الخارجية الاميركي السابق جيمس بيكر بدلوه في الجدل الدائر في واشنطن، ناصحاً باحترام اعرض تفاهم دولي ممكن قبل تصفية الحسابات مع النظام العراقي، حتى هب نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني لتوجيه رسالة معاكسة تمس اول ما تمسّ وحدة القرار في واشنطن.

ومن يعرف واشنطن، وبالذات، يعرف موازين القوى داخل الحزبين الاميركيين; الجمهوري والديمقراطي، يفهم ان بيكر وإن لم يكن رسمياً من رجال الادارة الحالية، فهو يبقى جزءاً مهماً ومحترماً من «مؤسسة الحزب الجمهوري». وبالتالي يمثل تياراً يبدو الآن انه حقاً يخوض جدلاً آيديولوجياً في اروقة القرار السياسي الاميركي، مع اليمين الاصولي توراتياً وحربياً.

بيكر وأمثاله من «كبار» الحزب لا وقت لديهم للنزعات الانفرادية المستعلية على الرأي العام الدولي، ذلك انه يمثل اتجاهاً براغماتيكياً عظيم الجذور في حزبه. وقد نجح هذا الاتجاه في المحافظة على مواقعه حتى عشية أكبر انتصارات اليمين المتشدد عندما كسب رونالد ريغان معركة رفع لواء الحزب في مطلع عقد الثمانينات.

بل ان الدليل الساطع على أهمية هذا الجناح انه ما كان لليمين المتشدد ان يحظى بأي تفويض شعبي للتغلب على الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية لولا لجوء «المؤسسة» الجمهورية بذكاء الى موازنة «تشدّد» ريغان بفرض «المعتدل» جورج بوش (الأب) في موقع نائب الرئيس.

هذه الخطوة وحدّت شراذم الحزب فحصنّته وطمأنت معتدليه، ومن ثم حالت دون خروجهم على حزبهم بالتصويت لجيمي كارتر يومذاك.

اليوم هناك فئات تحاول «اختطاف» برنامج السياسة الخارجية للحزب وتجييره لمصلحة كتل معينة نافذة، ليس فقط على حساب مصداقية الولايات المتحدة وصورتها في العالمين العربي والاسلامي، بل على حساب التفاهم والاحترام المتبادل مع دول اوروبا الغربية ايضاً. والمواقف الاوروبية واضحة تماماً بهذا الصدد. فألمانيا تحت زعامة غيرهارد شرودر اعلنت موقفها وفرنسا ايضاً غير بعيدة عن الموقف الالماني، ومعهما بلجيكا، وها هو الشارع البريطاني تبعاً لاستفتاء نشرت حصيلته أمس في لندن يقف ايضاً ضد انفراد واشنطن بالضربة العسكرية للعراق.

غير ان ما يجب ان يقلق مخططي السياسة في الادارة الاميركية الحالية هو الطيف العريض للمواقف في العالم العربي.

فمن جديد صدرت تحذيرات لواشنطن من منطلقات الثقة والصداقة والحفاظ على كلتيهما. ومن الرياض الى القاهرة، ومن عمّان الى الرباط هناك اصداء منسجمة متناغمة ترى ان اعتبار الاستقرار الاقليمي يستحق ان يكون في رأس قائمة الاولويات. في حين سيخلف ركوب مركب «الكيدية» عواقب وخيمة على الجميع، إن عاجلاً او آجلاً. وقد يستخف بعض متشددي واشنطن بهذا الاستقرار. وقد يذهب بعضهم الى القول ان هذا بالضبط ما يسعون إليه، لكن الحقيقة انه ما زال داخل مؤسسة السلطة الاميركية عقلاء يقدرون تماماً ثمن المغامرات، ويدركون ان الشعب الاميركي نفسه انضج مما يتوهمون، وهو إذا سمح له بالتفكير بلا وصاية من هذا «اللوبي» او ذاك سيقف مع المصلحة الوطنية لبلاده، وليس لمن يسخرها في اغراض وأهواء اخرى.

ولئن جاءت مداخلة بيكر تعبيراً إضافياً عن المعارضة التي يواجهها المتشددون، فإن مسارعة تشيني للرد تزيد في تأكيد هذا الاستقطاب، وهي ستشجع حتماً فئات اوسع حتى خارج الحزب والادارة على التفكير فيما تطرحه الاقلام المشككة من اسئلة عن الصلة بين الحرب ضد «الارهاب» وتفجير صراع في اخطر منطقة من العالم من دون مبرّر حقيقي او رابط واقعي.